بروده وهدوءه وامتلاكه زمام أعصابه وكنت أتخيل أنه بلغ مبلغاّ هائلاّ من خبث الطوية وبراعة الحيلة وأرى في صمته تبييتاّ لأمر في نفسه، وكنت أود لو يثور ويضاربني وتنتهي المعركة بيننا مع أسوإ الفروض
وجاءت عطلة العيد فبارحت الغرفة إلى الريف ولم أعد إليها بعد ذلك أبداّ. . . تركتها فخلفاّ فيها أمتعتي وكتبي. . . وهي تذكار دائم على أيام هنية
ولا زلت أرى المرأة وزوجها كلما ذهبت إلى القاهرة. . . وأغلب الظن أنهما لم يغيرا المنزل. . . كما أن الرجل لا يزال على حاله هادئاّ بارد الطبع لا تعبر ملامح وجهه عن حزن أو فرح أو أي انفعال نفساني. . . أو عاطفة من عواطف الجنس البشري أما المرأة فقد أصيبت بأزمة نوعا!
وفرغ صاحبنا من قصته وانطلق يدخن، وعدنا نشرب الشاي، وكان الفجر قد قرب وبدت خيوط النور في الشفق، فدرنا حول المزرعة لآخر مرة، وكنا قد تعشينا في أول الليل، فلما دنا الفجر أحسسنا بجوع شديد وكان الطعام سيجيء إلينا عند الشروق ولا طاقة لنا على انتظاره فقد اشتدت وطأة الجوع وأخذت بطوننا تعصرنا عصراّ. . .
وبعثنا اثنين منا إلى حديقة كروم قريبة ليحملا لنا منها ما يمسك بطوننا. وجلسنا في انتظارهما بصبر فارغ وقد انقطعنا عن الحديث. وإذا بنا نسمع نباح كلاب المزرعة فجأة. فصوبنا أبصارنا تجاه الصوت فرأينا غباراّ شديداّ يسد عرض الأفق. ومددنا أعناقنا فأبصرنا قطعاناّ كبيرة من الضأن قادمة من الطريق الزراعي الكبير ومتجهة إلى بعض القرى القريبة. . . وظهر أمامنا رجلان ضخمان يلوحان بعصوين طويلتين. . . وحول القطيع كلاب كاسرة تطوقه من كل جانب وخلف القطيع امرأة ترتدي دثاراّ أسود فاحماّ. . . وتهش بعصا رقيقة على الغنم وتزجر في صوت رنان كلاب المزرعة عن كلابها. . .
وقربت القطعان منا. . . وكان أحد الرجلين معلقاّ في عنقه مزماراّ طويلاّ. . . أما الآخر فكان يحمل على ظهره قربة ضخمة فيها متاعهم. . . وأخذنا نرقب القطيع بعيني الصقر حتى بعد عنا فشيعناه بأبصارنا وبطوننا الخاوية تمزق أحشاءنا. وحدجنا الأحمال الصغيرة التي تتوثب حول القطيع الماضي في طريقه بعيون جائعة ومر في ذهننا خاطر سريع ودون أن ننبس بكلمة انسللنا في أثر القطيع متجنبين طريقه. . . وجرينا شوطاّ، ثم كمنا