في جرن كبير من أجران القمح الهش في أقصى المزرعة ومرت قطعان الضأن وملأ خياشيمنا الغبار المتطاير من أرجلها. وكانت المرأة لا تفتأ تتلفت يمنة ويسرة وتضرب الصغار بعصاها. . . وجاوزوا حدود المزرعة وابتدأ الرجل حامل المزمار يزمر، ومدت القطعان أعناقها ثم تقدمت في صمت وسكون عجيبين. وانقطعت المرأة بعد صوت المزمار عن الكلام، وسكنت حركة الكلاب وانقطع نباحها. وكان في القطيع حمل صغير ما فتيء طول الطريق يتوثب ويركض في كل اتجاه، ويضرب برجليه الأرض. فلما سمع صوت المزمار سكن أيضاّ واستقام بأعجوبة كسائر رؤوس القطيع. . . وكنا قد تهيأنا له لنقتنصه. . . فما سمعنا صوت المزمار حتى شلت أيدينا وعجزنا عن الحركة، وبقينا ممددين على الأرض وعيوننا تتطلع إلى السماء وتتأمل النجوم. . . ورجع المزمار الحلو يتردد. كان كأنه مزمار داود يبعث من وراء الأجيال ويدوي وحده في هذا الليل وهذا السكون. ظللنا في مكاننا حابسين أنفاسنا، وصوت المزمار يهفو، والقطيع يسير، ونحن نرقبه عن بعد ولا نستطيع أن نتحرك
ورجعنا إلى مكاننا من الحقل ونحن لا نستطيع أن نعلل هذه الظاهرة الغريبة التي اعترتنا في تلك الساعة. أكان ذلك من تأثير الموسيقى، أم شعور آخر أيقظته الموسيقى
وعاد الرفيقان الذاهبان في طلب الكروم. . . وكان أحدهما يحمل كروماّ، أما الآخر فكان يحمل شيئا ّآخر. . . كان يحمل حمل الضأن الذي أفلتناه من أيدينا
وأشعلنا النار وشويناه. . . وكنا ننظر إلى اللهب الأحمر وهو يشوي لحمه. . . ونتصوره منذ لحظات وهو يجري ويتوثب بين رفاقه مرحاّ سعيداّ طروباّ، فيعصر الهم أفئدتنا
ولما جلسنا نأكل انقطعنا جميعاّ عن الكلام كأن على رؤوسنا الطير. وكانت كل قطعة من اللحم تستقر في جوفنا تمزق أحشائنا تمزيقاّ. . . كنا نتصور أن الحمل لا يزال يجري ويتوثب والقطيع يسير والمزمار يزمر