ودخلنا المنظرة فهب من فيها جميعاً وقوفاً لتحيتنا إلا الشيخ؛ ولأهل الريف أريحية جميلة في اللقاء والترحيب. ورفع الشيخ عينيه وهو متكئ على وسادتين في صدر القاعة، وما إن رآنا من عنصر المطربشين حتى سرت في وجهه غمة أسرع فأخفاها؛ وتكلف البشاشة، وسرنا نحوه فتظاهر أنه يهم بالوقوف فأقسمت عليه ألا يفعل؛ ومد إلينا يده وهو جالس فسلمنا، وما كان أعظم دهشة هؤلاء الوقوف من الرجال حينما رأونا لا نقبل يد الشيخ! وما كان أعظم أسفي أن أكدر عليهم صفوهم بهذا الذي فعلت وصاحبي! ولكن ما الحيلة وعندي أن أبكيهم جميعاً أسهل عليً من أن ألثم تلك اليد الكريمة؟
وأرادوا أن يفسحوا لنا مكاناً في صدر الحجرة ولكن الشيخ حريص على أن يظل دراويشه إلى جانبه؛ وأنقذت أنا الموقف فأشرت عليهم بإحضار كرسيين لنا قرب الباب لنستريح في جلستنا في ملابسنا الإفرنجية. وقبل أن نجلس سألت الشيخ ألا يؤاخذنا إن جلسنا ونحن أعلى منه فطيبت بذلك خاطر صاحب الدار وضيفانه، ثم قلت إن بركة الشيخ لتمسنا ونحن بعيدان، فرشفني بنظرة مستريبة ثم ردها سريعاً وفي وجهه الراحة والضيق معاً، فهو مرتاح إلى هذا التكريم الذي يصدقه مني الجلوس وإن لم يصدقه هو، ثم هو ضائق بخبثي وبحضوري وصاحبي في تلك الساعة
واتجهت الأنظار إلى الشيخ وكان صاحبي من الدهشة كأنه ذهل عن نفسه؛ وساد السكوت لحظة فما يتكلم أحد حتى يتكلم الشيخ. وكنت قبل دخولنا الحجرة تبينت صوته وهو يتحدث عن المال وأنه عرض زائل، وعن الجود والبخل، وفطنت إلى أنه كان في سيرة أحد البخلاء. ولم يفطن صاحبي إلى شيء لدهشته ولأنه لا يعرف صوت الشيخ. وغمغم الشيخ ثم عاد إلى ما كان فيه من حديث، ولحديث البخل عنده قيمته فقال:(هيه. . . سبحان من يرث الأرض ومن عليها. . . هو حد منا راح يأخذ حاجة معاه. . . إيه نصف ريال ولا نصف جنيه ولا حاجه فارغة زي دي. . . يا ما فلوس بتروح في المسخرة)
وتشعب الحديث، وأديرت علينا أقداح القرفة أكثر من مرة ونحن لا نستطيع لما نسمع من الأيمان لها رداً. ثم سمعت صاحب الدار يسأل عن شخص اسمه عمر ورأيت الشيخ ينهض واقفاً ثم يجلس بعد بضعة ثوان؛ ولكنه لا يلبث حتى ينهض مرة ثانية فعجبت وخفت أن يكون ذلك منه نذيراً بحريق جديد؛ وما جلس للمرة الثانية حتى صاح صاحب الدار بمن