للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

أن علم العربية في المشرق كله، منه نشأ وفيه نما وربا، فكانت إليه أنظارهم، وإليه حجتهم وقبلتهم، ولا يتم تمام العالم منهم - عند الرؤساء وعند العامة - إلا أن يكون علمه مشرقياً.

وكما نشاهد في مصر لعهدنا من يتزيد في الفضل بكثرة ما يروى من علم الأوربيين وما يقص من مشاهداته لديهم وما يروى من أخبارهم - كان هنالك في ذلك العهد. . . . . .

. . . وفي ذلك العهد كان ابن عبد ربه، وكأني به وقد رأى المنزلة التي ينزلها علماء المشارقة من نفوس قومه، والمكان المرموق الذي تحتله مؤلفاتهم وكتبهم؛ حتى كان شأن ابن قتيبة وكتبه عندهم ما قدمنا - كأني به وقد رأى ذلك، فدبر أمراً، وأحكم خطة، واتخذ طريقاً؛ ثم خرج على الناس بكتابه يقول: هاأنذا، وهاهم أولاء!

وكان علماء الأندلس يرحلون إلى المشرق، فرحل المشرق إلى الأندلس في كتاب ابنِ عبد ربه. . .!

ذلك وجه الرأي فيما أحسب لاقتصار كتاب ابن عبد ربه على أخبار المشارقة إلا قليلاً منه، لا أرى ذلك وجهاً سواه.

ورحل كتاب ابن عبد ربه إلى المشرق تسبقه شهرته، ووقع في يد الصاحب بن عباد، فأقبل عليه مَشُوقاً ملهوفاً يلتمس فيه عْلَم ما لم يعلم، فما هو إلا أن نظر فيه حتى طواه وهو يقول أسِفاً: (هذه بضاعتُنا رُدَّت إلينا!). . . ثم دار الزمان وجدَّت الحوادثُ في آثار العرب، فأخذتْهم بالسنين ونقص من الأموال والأنفس والثمرات. وتبعثرت المكتبة العربية فخلتْ بعد امتلاء؛ ولكن علم المشارقة ظلَّ محفوظاً بين دفتي كتاب ابن عبد ربه المغربي الأندلسيَّ القرطبي. . .!

هذا، وقد كان كتاب العقد من بعدُ، مرجعاً له خطره ومقداره عند كثير من علماء المشارقة؛ فنقل عنه القلقشندي في صبح الأعشى، والنويري في نهاية الأرب، والأبشيهي في المستطرف، والبغدادي في خزانة الأدب، وابن خلدون في المقدمة، وغير هؤلاء كثير؛ حتى قل أن يخلو كتاب من كتب النوادر بعدُ إلا كان العقد مرجعه وخزانة علمه. ولو أنني ذهبت أستقصي أسامي الكتب التي سطا أصحابها على العقد فاحتملوا من خزائنه ما أغناهم وذهب بشهرتهم كل مذهب لأعياني البحث وانقطع بي دون الاستقصاء.

محمد سعيد العريان

<<  <  ج:
ص:  >  >>