يخلق بعاطفة إنساناً واحدة طاغية عليه، كما أنه لم يخلق إنساناً محترفاً حرفة واحدة تؤثر فيه هذا الأثر الشنيع.
وإنما الناس الذين خلقهم الله أطفال، أصفياء، عواطفهم موجودة لا حصر لها: فالسعيد منهم هو ذلك الذي إذا نما العقل فيه تمكن به من حفظ التوازن بين هذه العواطف الموجودة الكثيرة فلم يسمح لإحداها بأن تغلبه على أمره. . . فإذا استطاع هذا، فهو ينمو ويكبر ولا يزال وجهه كوجوه الأطفال، ولا تزال شخصيته كشخصيات الأطفال، فيها هذا الشيوع السمح الذي لا يستطيع الناظر إليه أو المحقق فيه أن يميزهم به فيقول: إن هذا الإنسان حقود، أو أنه غيور، أو أنه طماع، أو أنه محام أو أنه معلم، أو أنه مهندس، أو أنه شيء ما. . . وإنما يقول هذا إنسان، فإذا أراد أن يعرف أي إنسان هو كان عليه أن يعاشره وأن يختبره، فعندئذ تتبين له مواهبه واتجاهاته العقلية والنفسية. ولا بد في هذه الحال أن تنكشف له ميزات عجيبة، لأن الإنسان الذي يستطيع - وعلى الخصوص في هذا العصر - أن ينجو بنفسه من الخضوع لإحدى العواطف أو لمجموعة خاصة منها، وأن ينجو من آثار الحرفة والمهنة، لهو إنسان قوي النفس استطاع أن يصل أو أن يعود إلى الأصل الطبيعي لنفسه، وهو الأصل الذي فطره الله عليه، وهو أصل خصب صاف غني فيه كل العواطف، وكل المواهب، وكل القوى الخلقية، وإن تفاوتت مقاديرها عند الناس.
ومن الفنانين الذين استطاعوا أن يصلوا إلى هذا الصفاء: شارلس لاتون، فأنت تنظر إلى وجهه فترى وجه طفل لا يستطيع اللحم المتراكم فيه أن يحجب صفاءه ولا نقاءه.
ونجيب الريحاني يقترب اليوم من الستين، ومع هذا فمهما تفرست في وجهه فإنك لا تستطيع - والصلاة على النبي - أن ترى فيه تجعيدة أو خطأً يستر عاطفة حادة أو يشير إلى أن هذا الرجل قد قهره الزمن على أن ينصبَّ في قالب ما. ولذلك فإنه قدير على أن يمثل كل شخصية من الناس، وعلى أن يعلم الممثلين كيف يمثلون ما اختلف من الشخصيات.
والأستاذ أحمد أمين - على ما أنا متحامل عليه - تراه فلا تعرف أهذا الرجل أديب، أم هو عالم، أم هو تاجر، أم هو من ذوي الأملاك، أم هو ممن يرزقهم الله يوماً بعد يوم. . . ولست أدري أأتاه ذلك لأنه من أولئك الذين تحدثنا عنهم، أم لأنه مجموعة من الرجال: