للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>

الكاتب الحق هو الذي يشغلك بنفسك، ويوجهك إلى مصيرك المنشود، ويفرض عليك درس غرائزك وأهوائك، بدون أن يفكر في حملك على الإعجاب بخصائصه الإنشائية. ولو شئت لقلت إن الكاتب الحق لا يخطر في باله حين يكتب أنه من أصحاب الأساليب، لأن الكاتب العظيم تصبح عنده الكتابة من وحي الفطرة والطبع، بحيث لا يشعر أن التأنق غرض مقصود، وإن إضافة الفن الجميل إلى طوائف المتأنقين

الكاتب الحق يقتنص قلبك وعقلك في مهارة الصائد الختول الذي يرى الصيد ولا يراه الصيد. الكاتب الحق يروضك على تغيير ما بنفسك بنفسك، فلا تتوهم أن له يداً في نقلك من حال إلى أحوال، وإنما تشعر أنه يعبِّر بالنيابة عنك، وأنك لو حملت القلم لكنت أقدر منه على الإبانة والإفصاح.

الكتابة من فنون التدريس، والمدرس الحق هو الذي يحاورك وكأنه تلميذ مثلك. هو الذي عناه لامرتين حين قال:

والأساس في الكتابة أن تكون فنَّا أخفى من نظرة العاشق بمحضر الرقباء. هي سياسة دقيقة جدَّا. هي سياسة تشبه سُرى العافية إلى الجسم العليل، وقد تشبه تسرُّب الداء إلى الجسم الصحيح، لأن الكتابة فن، والفنون تتجه إلى الهدم كما تتجه إلى البناء، على فرض أن الفن قد يسيء في زعزعة بعض المأثور من التقاليد

الكاتب الحق هو دائماً من أصحاب المبادئ والعقائد، في حدود ما يتصور من المبادئ والعقائد، لا في حدود ما يتصور الناس، ومن هنا يجوز للكاتب أن يلقاك بما تحب وبما لا تحب، وهو حين يستفحل قد يزلزل رأيك في جميع الشؤون ولو حدثك عن مواقع هواك

والوصول إلى هذه الغاية يحتاج إلى سياسة عالية، وتلك السياسة قد تستوجب أن يطوي عنك الكاتب ما يرمي إليه من مقاصد وأغراض، ليضمن غفوة عقلك عن مقاومة ما يدعو إليه. وقد تحار فيما يريد منك الكاتب، ثم تعرف بعد قليل أنه لم يُرد لك غير ما تريد لنفسك، وهو في الواقع أصاب مقاتلك من حيث لا تشعر، وكيف تشعر وقد استدرجك بأسلوب ألطف من اللطف وأخفى من الخفاء؟

فأين البشري كاتباً من هذه المعاني؟

هو رجلٌ صخَّاب ضجّاج يدقَّ الأجراس الضخام حين يدخل الغابة للصيد!!

<<  <  ج:
ص:  >  >>