للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>

ألم يَعجب البشري من أن يصل على يوسف إلى قمة البلاغة وليس في كلامه نظمٌ متكلف؟ وما ذلك النظم؟ هو عنده نظم يتكلفه (صدور الكتَّاب)، كأن صدور الكتَّاب لا يكونون إلا متكلفين! وكان الأمر كذلك عند البشري، لأنه لم يفهم البلاغة على وجهها الصحيح، فكانت في ذهنه أجراس طنطنة وأصوات ضجيج

كل هم هذا الرجل أن يفتنك في كل حرف بأن الكتابة شيءٌ ضخمٌ فخمٌ يروعُك وَيهولُك، وإن لم يكن لذلك موجب توحيه الفكرة أو يفرضه البيان، فلأي غرض يصنع بنفسه هذا الصنيع؟ ومتى يعرف أن السحر من أوصاف البيان، والأصل في السحر أن يقدَّم الأباطيل وهي في مرأى العين حقائق لا أباطيل؟

هل سمعتم بالرحا التي تطحن القرون؟ هي البشري في بعض نثره القعقاع؟

يندُر أن تجد في نثر هذا الرجل صفحة خلت من التكلف. ويندر أن تشعر بأنه خلا لحظة إلى قلبه يستلهمه ويستوحيه، فهو مشدود في كل وقت بزمام التفصُّح الثقيل، إلا أن يثور على (حرفة) الكتابة فيرسل نفسه على سجيتها الأصيلة، وذلك لا يقع منه إلا في أندر الأحايين

عبد العزيز البشري من الأذكياء، ولكن ذكاءه انحرف بعض الانحراف، فلم يكن له في أدبه من أثر غير ما عرفنا وعرفتم من القرم إلى التندر والأغراب

كنت أتمنى أن يدرك البشري كنه الوشائج بين جذور الفن وجذور الذكاء، ولكن البشري مضى لطِيته فلم ينتفع بآراء الناقدين.

كان البشري يستطيع أن يكون كاتباً عظيماً، لأن لهذا الرجل ذخيرة منسية من الفطرة والطبع، ولو أنه استجاب لوحي روحه لأتى بالعجب العجاب، ولكنه تكلف ما لا يطيق، فأضيف إلى المتحذلقين

ولكن ما الموجب لمواجهة هذا الكاتب الفاضل بهذا النقد الجارح؟

هو الموجب الذي فرض أن أُفسد ما بيني وبين المرحوم مصطفى صادق الرافعي وكان من كرام الكاتبين

فأنا بصريح العبارة أتهم أهل التكلف وأراهم أطفالاً في دولة البيان

وليس معنى هذا أني أنكر قيمة الصياغة الفنية، فالكتّاب الكبار قد يشقون في تحبير ما

<<  <  ج:
ص:  >  >>