للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>

يكتبون أعنف الشقاء، ولكنهم ينتهون إلى عرض آرائهم بأساليب هي الغاية في الوضوح والجلاء، فلا يتوهمُ متوهمٌ أنهم عانوا عنَت الإنشاء وقد هاموا على وجوههم في تجاليد الليالي

هل سمعتم بالسمك الرَّعاد الذي لا يوجد في غير نهر النيل؟

هو سمك كسائر الأسماك، ولكن فيه قوة كهربائية، وكذلك الكلام البليغ: فهو كلام كسائر الكلام، ولكن فيه قوة كهربائية وصلت إليه من ثورة الروح أو فورة الوجدان

ليست القوة في اللفظة اللغوية، اللفظة التي يدلنا المجمع اللغوي على قبرها المجهول، وإنما القوة في اللفظة التي يَحُلها روح الشاعر أو الكاتب فتصبح وهي محمَّلة بالمعنى الفائق والخيال الطريف

فكيف جاز للشيخ البشري أن يمنّ علينا بأنه أحيا بعض الألفاظ من موت، وهو لم يسكب عليها قطرة واحدة من دم القلب؟

حدثنا الأستاذ خليل مطران في مقدمته لكتاب الشيخ البشري أنه وقف منه موقف الدليل من المتحف، وقد صدَق ثم صدق، فزائر المتحف يخرج كما يدخل، فلا يكون محصوله غير ذكريات، ولا كذلك زائر المعرض فهو يقتني ما يروقه من النفائس حين يشاء

فهل كان الأستاذ خليل مطران يعني ما يقول وهو يجعل كتاب الشيخ البشري متحفاً من المتاحف، لا معرضاً من المعارض؟

المتاحف نفائس، ولكنها لا تصلح للاقتناء، لأنه يعرَّضها للبوار الشنيع!

فالمتحف المصري هو أعظم ما في العالم كله من النفائس، وهو يقدَّر بألوف الملايين من الدنانير، ولو بيعت ذخائره لجعلت المصريين أغنى الناس أجمعين، ولكن هذا المتحف النفيس يمسي وهو من سَقَط المتاع إذا عُرِض للبيع، فحياته في الموت، ونباهته في الخمول

وكذلك تكون (آثار) الكتّاب المولعين بالزخرف والبريق، فألفاظهم نفائس، ولكنها رسومٌ هوامد، وهي لا تُنقل من المعاجم إلى (المختار) إلا كما ينقل الرفات إلى (الضريح)

والقول الفصل أن الكتابة قلبٌ يُفصح وعقلٌ يبين، وليست ألفاظاً تُضمَّ إلى ألفاظ. الكتابة قوة روحانية لا تتفق للكاتب إلا بموهبة سماوية، فمن أراد أن يكون كاتباً فليرحل من

<<  <  ج:
ص:  >  >>