والنوع الثاني هو نوع المخترعين الذين يزيدون في وسائل راحة الأجسام ويخفقون المشقات والآلام وينمون قوة الخَلْق والتقليد في يد الإنسان ويزيدون صور الحياة بالتنويع والترصيع والتوشيع والافتنان
ولئن كان النوع الثاني هو صاحب الدولة على عقول الناس الآن لكثرة ما فتح عليهم من بركات الأرض فينبغي ألا ينسى المنكرون أن النوع الأول هو مقيم أساس الحياة الإنسانية والآخذ بيد البشرية حتى بلغت دور الرشد. وهو الأكبر خدمة والأبعد أثراً، إذ هو الذي بعث في النفوس طمأنينتها على قيمتها وأيقظتها لذاتها وأرشدها لمدخرات روحها وعقلها، وهو الذي أوجب عليها الملاءمة بين ما تصنع وما تنتظر
وستستحيل كل بركات العلم إلى آفات ونقم وشرور إذا لم تتذكر الإنسانية جهاد آبائها الأنبياء القدماء وتقيم حياتها الجديدة على أسس ما أفنوا أعمارهم في وضعه وتوسيده، وما قتلوا وصلبوا في سبيل إعلائه وتشييده
غير هاتين الأسرتين السالفتين من الأفكار فهو زبد يذهب جفاء. . . هو باطل لا حقيقة له ثابتة دائمة. هو صور عابرة لتسلية النوع في جهاده وتخفيف إعناته
ويخيل إليّ حتى درجن الظن. . . أن فكر الإنسان لا يجدي عليه شيئاً إلا حين يتجه إلى فتح جديد في عالم أخلاقه أو في عالم المادة للانتفاع بها وكشف خصائصها، ولقط أسرارها واستخدامها، وأنه ما وضع في الحياة موضعاً أصيلاً إلا في هذا الموضع. . .
فمعرفته بأخلاقه تقيم حياته على الصراط السوي الذي ليس فيه عقبات وسدود من فعل الغرائز والشهوات وعقابيل للطفولة وتفرغه للعمل المثمر الدائم في المادة
ومعرفته بأسرار الطبيعة تفتح له أبواب العمل فيها وتنتج له بركات السماء والأرض وتريحه وترقيه وتفرغه للعبادة بالفكر والعمل
أما فترات التفلسف النظري والهيام وراء البدوات والفروض فتلك لا محصول وراءها أو هناك محصول ضئيل
هاتان عضَوان لا يستطيع الإنسان أن يمشي بدونهما خطوة واحدة، وإنما يدور على نفسه كما كان في العصور الأولى ولو كان في القرن العشرين. . .
ولا يمشي بإحداهما ويترك الأخرى إلا أصيب بالعرج والتعثر