للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>

كان بلوغه فوق طاقة البشر: فهو تقويض الأباطيل التي جعلوها بين الخالق والمخلوق، وهداية الإنسان إلى الله، وإقامة معنى الربوبية المبني على العقل والتقديس في بهرة ذلك الزحم المختلط من آلهة الوثنيين المادية المسيخة. ولم يعتزم إنسي صُنعاً قط ويبدأه بوسائل على مثل ضعف وسائله ومثل هذا التفاوت بين قوى البشرية والعمل المنوي: إذ أن محمداً، في تصور مشروعاً على هذه الضخامة وفي إنفاذه، لم يكن له من وسيلة سوى نفسه، ولا من مساعد غير عدد قليل من الرجال في ركن الصحراء. وأخيراً لم يتم أنسيّ قط، في زمن أقصر من زمنه، انقلاباً في الدنيا على مثل هذه السعة وهذا الدوام: إذ لم يمض قرنان على الدعوة الإسلامية حتى كان الإسلام منادى به، مسلحاً، سائداً في ثلاثة البلاد العربية، فاتحاً للتوحيد فارس وخرا سان، ومصر وأثيوبية والمعروف من أفريقية الشمالية بأسره، وعدة من جزر البحر المتوسط، وأسبانيا وجانباً من فرنسا

وإذا كان سمو الغرض، وضعف الوسائل، وجلال النتيجة، أموراً هي ثلاثة المقاييس لعبقرية المرء، فمن ذا الذي يجرؤ على أن يوازن من الجهة الإنسانية بين محمد ورجل من عظماء التاريخ الحديث؟ فإن أشهرهم لم يقلّبوا غير أسلحة وقوانين وإمبراطوريات؛ ولم يؤسسوا، حين أسسوا شيئاً، سوى دول مادية كثيراً ما انهارت قبلهم؛ أما هذا فقد قلّب جيوشاً وشرائع وإمبراطوريات وشعوباً وبيوتات مالكة وملايين من الرجال في ثلث المعمور من الكرة؛ لكنه زاد فقلب مذابح وآلهة وديانات وأفكاراً وعقائد ونفوساً، وأسس قومية روحانية على كتاب أصبح كل حرف منه شرعة قومية روحانية تضم شعوباً من كل لسان وكل لون، وجعل لهذه القومية الإسلامية طابعاً لا يبليه الزمان بما نفث فيها من بغض للآلهة الزائفة، وحب لله الواحد المنزه عن المادة. وهذه الوطنية المنتقمة من الاستهانة بالله هي خاصة أتباع محمد وفضيلتهم. ولقد كان فتح ثلث الأرض لعقيدته معجزته، والأحرى أنها لم تكن معجزة رجل، بل كانت معجزة العقل. وإن معنى وحدانية الله التي نادى بها والناس في سأم من العبادات الوثنية كان معنى له في ذاته من القوة، حين تفجر على شفتيه ما أضرم معابد الأصنام العتيقة جميعاً، وأشعل بأضوائه ثلث العالم

. . . إن حياة محمد وتأمله الديني ولعناته الشديدة الفعّالة لأباطيل بلاده، وإقدامه على مواجهة حفيظة الوثنيين وحَنقهم مواجهة الجسَّار، وثباته على احتمالهم في مكة خمس عشرة

<<  <  ج:
ص:  >  >>