للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>

ما سمعت أغنية واحدة أو لحناً واحداً، ولا سيما الأغنيات الأخيرة إلا أحسست بالتقزز للرجل المتراخي النائم على نفسه، المتخاذل في حركاته، المهوم للنعاس في نغماته، وللمرأة المتخلعة في نبراتها، المدغدغة في تأوهاتها، ولشواب البلد وشبانها يتهالكون من الرخاوة، ويتحاملون الهزال، ويرفعون عقيرتهم بالنواح: (يا لوعتي يا شقايا يا ضنى حالي - طول عمري عايش لوحدي - ما يهونشي)

وكل هذا هين لولا فجيعتي في شاعر أعزه وتربطني به روابط ودية وثيقة، وصلات أدبية طيبة. وقف مرة أمام المذياع يقدم قطعة من تأليفه لحنت هذا التلحين، وأديت هذا الأداء؛ فقال: إنها في صورتها هذه الممسوخة تعبر عما أحس به وهو ينظم مقطوعته، وأنه يعتز بهذا التعبير كل الاعتزاز.

شعرت بالفجيعة مع ثقتي بأن عوامل غير عامل الإعجاب الفني بكل تأكيد هي التي أوحت إليه بما يقول. شعرت بالفجيعة لأنه شاعر وصاحب قلم، وكل ذوي الأقلام يتعين أن يكون مكانهم في صفوف المكافحين عن ذوق الأمة الفني وعن سلامة فطرتها التي تنهكها هذه الألحان.

ولقد انتهيت إلى مقاييس لا تخطئ في تقدير صحة الفطرة الفنية وسلامة الشعور الإنساني، وهي في يدي كمقياس الحرارة في يد الطبيب. فأيما إنسان دل مقياس الحرارة في فمه على رقم غير الرقم الصحي، فهو مريض مهما نطقت ملامحه بالصحة وجوارحه بالعافية؛ وأيما إنسان أحس في ضميره اختلاجه للحن من تلك الألحان المريضة، فهو مشوه الفطرة سقيم الطبع، شارب من النهر مخمور.

وللصحافة رسالة يجب إلا تنكل عنها، وواجب يجبأن تؤديه؛ وقد تعاورني الرجاء واليأس في إصلاح هذه الحال، ولكن يجب أن تكون فداحة العبء مثيراً لعظائم الجهد، ومن يدري، فقد نعثر على كنز مخبوء في طبيعة هذه الأمة، أو منبع مطمور من منابع الفطرة، نزيل عنه الركام، فإذا تفجر اكتسح هذه الرواكد وتلك المخلفات.

(حلوان)

سيد قطب.

<<  <  ج:
ص:  >  >>