لم تبق عاطفة إنسانية نبيلة لم يشوهها هذا الغناء، ولم يبق شعور وجداني كريم لم يفسد طبيعته.
فالحب مثار الحيوية في النفوس، ومبعث القوة في الوجود. هذا الحب الذي تدخره الحياة لأبنائها، لتبيحه لهم في أفضل ساعاتهم وأملئها بالفيض الروحاني، والتفتح العقلي، والنضوج الجسمي، وتعبر به عن أقصى غبطتها بهم ورضاءها عنهم، وتدل به على صلاحيتهم لها وأدائهم لحقوقها. هذا الحب الذي هو (جواز المرور) من حمله من الأحياء أباحت له الحياة خدرها وأثمن مكنوناتها (كما يقول العقاد). هذا الحب الذي يفجر في الإنسان كل منابع السمو والعطف والمرح والاستعلاء كما يفجر في الحيوان - في صورة الغريزة - كل منابع النضج والقوة والازدهار.
هذا الحب كله عاد في ذلك الغناء رجع الصدى الهزيل للغريزة المضعوفة، وصوت الأسى الذليل للحيوانية المريضة، ودمعة الضعف الكسير للرغبة العاجزة.
والألم أنفس الأحاسيس الإنسانية. الألم الطهور الكريم صقيل الطبيعة البشرية، ومنضج المشاعر الفجة؛ وبوتقة الشهوات الخبيثة. . .
هذا الألم عاد في ذلك الغناء تصنعاً زرياً، وتكسراً شائهاً، وتميعاً (مقرفاً) ونعومة خبيثة.
والفنون على الإجمال، هي رمز الأمل الطليق من قيود الواقع المحدود، المتعالي على مطالب الضرورة القاصرة، وهي مهرب النفس الإنسانية الطموح حين يعجز الواقع عن تلبيتها فتجد في الفنون دنيا من المستقبل، وعالماً من الملأ الأعلى، وفسحة من الكمال الموموق.
ولم تكون الفنون تعبيراً عن جوعات الأجسام، ولا شهوات اللحم والدم إلا في أحط صورها وأولى درجاتها، ولكن ألواناً من القوة الحيوانية العارمة، والنشاط الغريزي الفاره، والجوع البهيمي المتنزي قد يعجب النفس لما فيه من معنى الحيوية المتوثبة والقوى المتحفزة.
فموسيقى الجازبند تعبيراً عن الحيوانية الهائجة ولكنها قد تجد لها شفيعاً في الدنو من دائرة الفنون بما فيها من قوة الهياج، وضجة الزياط، وثورة الدم في العروق.
ولكن أي شفيع للحن أو أغنية هي تعبير عن الحيوان المضعوف السقيم، يتميع بالغريزة العاجزة الكليلة، ويتخلع بالرغبة العجفاء الهزيلة، ويدغدغ غرائز السامعين المخدرين؟