أمامنا يتمهَّل ووقع بصره علينا، وبعد دقيقة أو دقيقتين وقد همت بالتقدم للسلام عليه ناداني: ألست أنت (عريفي) الشيخ علي نجم؟
وسألني وصاحبي فقصصت عليه كيف جئنا وما قال لنا خدمه وابنه؛ وكنا دخلنا معه وقربنا إلى حيث يجلس يستقبل؛ فلما سمع منا تغير لونه ووقف ووقفنا؛ ثم رجع إلى أول الحديقة ونادى ابنه الذي استقبلنا وطلب معه من في البيت من اخوته ثم وقف وهم جميعاً أمامه، فحدثهم باللغة التركية حديثاً طويلاً كان فيه ظاهر الغضب. وقد وقفوا جميعاً أمامه صفاً واحداً رؤوسهم على صدورهم مشتبكة أيديهم كأنهم في صلاة؛ ثم قال ختام كلامه باللغة العربية، وقد فهمنا منه غضبته وما حدث أبناءه - وخدمه واقفون - باللغة التركية؛ وكان ختام عرابي باشا حديث أبنائه كأني أسمعه الآن يقول مشيراً إليَّ وإلى صاحبي:
هذا زميلي في الكتَّاب، وهذا عريفي جلست إليه يسمع مني القرآن فهو معلمي؛ وأنا فلاح ابن فلاح تحدرت من أصلابهم وأنا بهم فخور، فخور بأني نشأت ولعبت في الماء والطين معهم؛ وأنا عرابي باشا، ولكني فلاح ومن قرية (هرّية)، وهؤلاء الفلاحون هم أهلي وعشيرتي ومنهم دمي، فمن جاء منهم إلي لا يجلس بالباب.
ثم أولاده فانصرفوا وهم سكوت: فدخلنا فجلس معنا ساعات يحدثنا عن صبانا وأيام الطفولة ويسألنا عن رفقاء الكتاب. وأراد أن يستبقينا ليلتنا فشكرنا واعتذرنا. ولم يتركنا عرابي باشا حتى خرج معنا خطوات من حجرته واستحلفنا أن نعود إليه وأن يرانا.
قال محدثي الشيخ المعمر: ولم يشأ الله أن نزوره ولا أن نراه. ولكننا نحبه كما كان يحبنا.
قلت يرحمك الله أيها الشيخ كما يرحم الله عرابياً البطل الفلاح.