الإنساني وإلى وجوب تمجيده عن السفساف الحقير من التصرف وإطلاقه يرود وينظر ويعمل في ملكوت الطبيعة. . .
ولا أقصد بتمجيد الفكر الإنساني إلا تمجيد بارئه وواضع أسراره في هذا الجسم المحدود الضئيل. . . فلا يتوهمن متوهم أنني سأخرج بغلوي في تمجيد الإنسان إلى شيء أشبه بإشراكه في الخلق والإيجاد، فإنني قد حددت هذا النوع في مقال سابق بأنه آلة في يد البارئ يتمم بها التنويع والتفريع في خلق المادة وتصويرها.
ولا يسعني غير هذا بعد أن رأيت وفكرت في أعمال تلك الطائفة المجيدة التي لم يلتفت إلى وضعها في الحياة بعد ولم يعرف لها خطرها في تحقيق الغرض من خلق النوع ولم ينظر إليها ولم تنظر لنفسها نظراً صوفياً. . . وأعني بها طائفة المهندسين. . . أولئك الشعراء الصامتين الذين يرسلون قصائد مجسمة ويفعلون الأعاجيب من المواد المبعثرة المشوشة المختلطة الملقاة بدون نظام وتنسيق، ويقيمون منها هذه الأشكال الموزونة المصقولة المنوعة التي عملت فيها آلاف العقول والأيدي بالتلوين والتزيين والإخراج الفَنّي الغني باللفتات الذهنية واليقظة لألوان الشفق وأفواف الزهر، ومزج الأضواء والظلال. . .
أو يقيمون أجساماً آلية تنبض بالنار والبخار وتسعى بهما أو بالكهرباء وتضيف إلى عالم الحركة في الأرض قوى أخرى تملأ مسمع الزمان مع كل ما يدور فوق وتحت. . .
أولئك الذين تسير أعينهم على مواقع يد الله يلقطون أسرارها من غُمار الحياة الزاخرة وعباب المائع و (المتبلور) والجامد، ثم ينظمون كل هذه الأفانين ويتخذونها أساساً لقوة التقليد وقدرة الابتكار التي في أفكارهم وأيديهم
أولئك الذين يسيرون على أسلوب الله من العمل في المادة مع الصمت. . . ويتلقون فيوض المواد والقوى الطبيعية من يده الكريمة فيقسمونها ويوزعونها ما أراده فيها ويجلون ما أخفاه في أطوائها وثناياها ثم يضعونها في الأرض مجملة منسقة متاعاً للعيون ومثابة للأجسام ومظهراً وتأويلاً لأحلام الروح في عالم الجمال
ولن ينتهي العمل الهندسي للإنسان في الأرض إلا بعد أن يملأ شعابها وهضابها وهواءها وماءها وسهولها وأوعارها بآثار يده وفكره. فإنه مخلوق برهن على أنه يصلح للعيش في اليابس والماء والهواء، وأنه لا شيء إلا وهو واجد فيه حقلاً ليده يعمل فيه ويأخذ منه. . .