وإنني ما سمعت صوت قارئ واحد يتلو كلام الله في تمجيد ذاته العليا في محطة الإذاعة فتردد صوته جميع آلات الالتقاط في جميع الأنحاء وتبث ذلك التمجيد إلى زوايا الدنيا وأركانها وطبقات الجو إلا أحسست أن الإنسان ابتدأ يؤدي رسالته وعبادته ويُنطق بها الجماد ويُسمع بها على رغم الأبعاد. . .
تلك صوفية مادية حديثة ينبغي أن تكون من مظاهر التدين في هذه العصور التي تسير فيها المدنية المادية بحياة الإنسان في ساعة واحدة أضعاف ما كانت تسير به مدنيات العصور السالفة في عشرات السنين. . .
نعم إن أصول الدين واحدة ثابتة لا تتغير، ولكن ما نشأ حولها بفعل جهالات الإنسان وتزيداته ينبغي ألا يجعلنا جامدين متحجرين في طرق العبادات، فنفهم أن عباداتنا قاصرة على الأشكال الموروثة بل يجب أن تكون انتقالات العلوم بنا سبباً في أن نعبد الله بها وأن يزيد فكرنا فيه من أجلها. وتلك عبادة مطلقة من قيود الطقوس والرسوم والأشكال. . . عبادة يستطيع أن يقوم بها من يسير بسرعة ألف ومائتي ميل في الساعة. . . ويرتفع إلى طبقات الجو العليا، وينخفض إلى أعماق البحار السفلى. . . ويتنفس في أقصى الشرق فتسمع أنفاسه من أقصى الغرب. . . ذلك الذي يستطيع أن يترك في كل مكان كلمة تشهد بالله وينطق بها الأحجار والأشجار والماء والهواء. . .
فبين العلم المادي والتصوف هنالك يجب أن يقف الإنسان الحديث ينادي الله وفي قبضة يده مفاتيح أسرار المادة ونواميسها وفي قلبه صلاة دائمة جامعة. . .!
وهذه الصوفية المادية تمجد العلم المادي والعمل به وتخضع لدولة الأجسام ولا تثور عليها ولا تعطل قواها بل تنميها، لأنها تعرف أننا ما خلقنا في عالم الأجسام إلا لنعرف قوانينها ونؤمن بها.
وينبغي أن نقول هنا لبعض المغرمين بمباحث الروح الذين يفرحون إذا عثروا على حادثة غريبة لا يمكن تفسيرها تفسيراً مادياً ليتخذوها حجة على وجود قصد وعالم آخر وراء هذا العالم المادي: إن ما تغرمون به وتنفقون حياتكم من أجله لا يمكن أن يبلغ مهما كثر إلى معشار الحجج التي تستطيعون أن تأخذوها من ذلك العالم الظاهر المليء بالعجائب والمعجزات التي لا تحتاج العقول معها إلا إلى حركة ارتداد إلى مبادئ الأشياء، وإلا إلى