عند هذا الصنف من صور كمال الحياة أرحب من الموجود وأكمل. فهو يسير في مستحدثات الأيام كما يسير المرء في طريق معروفة له تردد عليها مراراً من كثرة فكرة في الموجود والمعدوم وما يصح أن يوجد.
وهذا قد يعمل في الحياة بجد وصبر، ويسير كما يسير الغافلون بدفعة دولاب الحياة، وطواعية لحركات سيرها بالناس. وإنما يطيع آمالها ويزاول أعمالها خضوعاً لقانونين عظيمين من قوانينها: وهما الأمل والعمل. . .
وهكذا الطبيعة رسالات من علم الله إلى الفكر الإنساني العام. يتلقاها كل عقل حسب طاقته واتساع حوزته، ويأخذ منها ما قدر ويسر له. . .
فينبغي لمن لم يدرك ألا ينكر على من أدرك. . . ينبغي لرجل الشارع ألا يجادل في عالم (أينشتين) أو (أديسون) أو الغزالي من إليهم من العقول الفائقة التي أطلت على الأرض وكانت فيها كالثمرات التي تلقط أسرار نوعها وتحفظ بذوره وترقيها
وبين الإله البارئ الكبير وما عنده من عوالم المعاني والقوى المجردة والكمالات التي لا تتناهى، وبين عالم المولد والكثافات، وقف الإنسان التائه المتأمل الساعي وراء المعرفة حيناً من الدهر لم يتقدم فيه خطوات كثيرة، ثم انقسم فريقين: فريقاً استمر في التفكير المجرد في الطبيعة وما وراءها، وأدرك بعض اتجاهات الكون باللمحات والنظرات الشعرية الخاطفة، وقنع بذلك حتى خرج من الحياة (عارفاً) غير (عالم) ولا (عامل). . .
وفريقاً أعياه التفكير المجرد، ولم يجد له محصولاً يملأ يديه ويشهد له الناس بأنه أدركه وقنصه، فانصرف إلى أنواع الحياة في الأرض وأشكال المادة يعبث فيها ويدور حولها ويخرج أسرارها حتى (علم) ثم أخذ يقلد ويبتكر
وكما أن الأقدمين كانوا ينظرون إلى أعمال الطفولة وحب استطلاعها الأشياء على أنها عبث ولعب لا طائل تحته. . . كذلك نظروا إلى أعمال أكثر الرجال في المادة وتنويعها وملء الحياة بضجاتها وأصواتها على أنها عبث ولعب لا يليق بمن يسير إلى الموت والفناء. وكان المثل الأعلى للحياة الصالحة عندهم أن يطلْق الناس أعمال الدنيا ويذهبوا إلى المعابد والمعاهد يتلون الأوراد ويفلسفون ويرسلون الأشعار ولا يرفعون في الأرض حجراً على حجر، فيكونون عنصراً مستهلكاً غير منتج يأخذون من الحياة أغذية وأعمالاً،