للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>

أسفاه قد أتقنت لغة البراغيث لما فيها من عسر وتعقيد، ولكني استطعت رغم ذلك أن ألتقط من حديثه مع إحدى الفراشتين ألفاظاً متناثرة علمت منها ما يريد.

قالت فراشة تحدث البرغوث الوثاب، وقد ضاق صدرها بلهوه وعبثه:

- هلا اصطنعت يا أخي شيئاً من الجد في ساعة يجد فيها الحديث؟ ما كل ساعة للهو والطرب

- وفي أي أمر خطير تتحدثان؟

- في هذه النشوة التي أخذتك بغير مبرر معقول

- وأي حافز للطرب أشد وأقوى من عالم فسيح خلقه الله لي ألهو فيه وأمرح؟. . .

فقالت الفراشة الثانية:

- أخلق الله هذا العالم الفسيح لك أنت؟ وماذا تقول إذن في الإنسان الذي سخر الطبيعة بعقله الجبار؟!

- ومن تقصدين؟ أتريدين هذا الحيوان الذي ضمرتْ فيه رِجلان وطالت رِجلان؟ هل تعلمين لماذا خلق الله هذا الإنسان؟ هل تعلمين فيم سعى هذا المسكين آناء الليل وأطراف النهار؟ ليطعمَ فيجود لحمه فيصبح طعاماً شهياً للبراغيث. ألا ما أشقى عالم البراغيث إن لم يكن بين صنوف الحيوان هذا الإنسان!!

وجاءت بعوضة تسعى، تهز جناحيها الصغيرين طياً ونشراً، وأخذت تدنو من الفراشتين قليلاً قليلاً، ومالت برأسها تستمع للحديث، فلما استجمعت أطرافه اقتربت من الفراشتين ولبثت بينهما صامتة. وحدِّث ما شئت عما ملأ نفسي من سرور حين رأيت البعوضة تهم بالكلام، لأنني بلغت في فهمها حداً بعيداً بحيث لا تخفى علي من ألفاظها خافية، ولأني عهدت في البعوض حكمة عجيبة وعلماً واسعاً، لست أدري أنى له بمثله، ولا أنفك يوماً عن التفكير في هذه الحشرة الغريبة، فهل جاءها العلم مكسوباً من تجاريب الحياة، أم هو موهوب مفطور في جبلَّتها؟

قالت البعوضة بعد صمت:

- فيم الحوار؟

فأجابت الفراشة المتحمسة، ولعل حماستها مستمدة من شبابها:

<<  <  ج:
ص:  >  >>