- أراكم تعجبون وليس في الأمر ما يدعو إلى العجب! لقد ذكرتم أن الإنسان بين صنوف الحيوان طفل وليد. إنه ما يزال يعبث في مهده ويلهو، أفيكون عجيباً من الطفل أن يتشبث بالأشياء ويمسك بها في قبضته صائحاً: هذا كله لي، لي وحدي دون سواي؟ فاغفروا له هذه النزعة الصبيانية حتى تُعَلمه الدهور أنه جزء من كلٍّ عظيم. . .
وهنا قفز البرغوث قفزات لفتت له الأنظار، فقال:
- حدثوني - نشدتكم الله - ماذا حدا بالإنسان أن يتبجح فيزعم لنفسه ما زعم؟
فأجابت الفراشة المتحمسة:
- أغراه بذلك ما له من علم وأخلاق؟ وما يدري أنه بعلمه يكمل النقص في غريزته وفطرته، وأن أخلاقه حين تحلم بالمثل الأعلى فهي أحلامها دون ما يسود ممالك النمل والنحل من أخلاق! إن الحيوان لا يعرف العري والجوع، وأما الإنسان بكل ما له من علم وأخلاق. . . آه! وددت لو خرج هذا الكاتب البليغ من لفائفه (الصوفية) فيخوض في برد الليل ساعة فيرى بني جنسه قد ألقاهم البؤس في العراء. حرمتهم الطبيعة الفراء اتكالاً على علم الإنسان وأخلاقه، فعجز العلم والأخلاق أن يهيئا لهؤلاء الأشقياء وطاء أو غطاء! وددت لو خرج الكاتب البليغ لحظة من (تصوفه) الذي يدفئه بين جدران داره وفوق حشايا مخدعه ليرى كم من بطون قومه قد باتت خاوية على الطوى. . . ولكنه لن يبارح هذا الغشاء (الصوفي) ليرى الحقيقة (عارية) حتى يخزه في رقاده واخز.
فقال البرغوث وهو يثب في جذل طروب:
- لكم مني هذا الصنيع. والله لأقُضَّنَّ مضجعه هذا المساء، لعل السهاد أن يحفزه على التفكير في هؤلاء الذين ينبتون القمح حتى يملأ الأهراء ثم لا يأكلون، والذين يزرعون القطن حتى تغص به المخازن ثم لا يكتسون. . . والله لأؤرقنه هذا المساء لعله يعيد التفكير في هذا الإنسان الذي يقتل بعضه بعضاً بأدوات من العلم، ويهلك بعضه بعضاً بنزوات من الأخلاق.
. . . وقال ذلك البرغوث وانصرف، وكان الليل قد انتصف، فأطفأت سراجي وأويت إلى مخدعي، وبي إشفاق على صديقي خلاف من هذا البرغوث اللعين!
خلافُ يا صديقي لا تسرف! أفيكون هذا الإنسان الذي جارت به السبيل والدليل جديراً منك