عصور عفّي عليها القدم، وأخنى عليها الزمن، بينما يعيش بجسمه وعمله في عصر العلم، والتفكير الحر، والتجديد النافع!
جمع هذا الحفل بين العالم الذي ظل عمره في أحضان الأزهر وبين ريوعه، وبين العالم الذي عاش دهراً في أوربا فرأى ما لم يكن قد رأى، وعلم ما لم يكن قد علم، فاشتجر في نفسه القديم مع الحديث، وامتزج في ثقافته الشرق بالغرب.
وكنت ترى إلى جانب هؤلاء وأولئك طلاباً أزهريين يحرصون في لهف وشوق، وإلحاح وإصرار على شهود هذا الحفل، والاستماع إلى نقاش فيه وجدال بين طالب منهم، وأعلام من أساتذتهم على أساس الحجة والبرهان، والبحث الحر، والنهج العلمي المستقيم.
وكنت ترى في هذا المحيط الأزهري الصاخب زواراً من غير الأزهر، جاءوا ليشهدوا هذه المناقشة العلمية التاريخية التي تدور في الأزهر لأول مرة والتي يرأسها رجل من أفذاذ المفكرين، وكبار المصلحين، وهبة الله عقلاً ممتازاً وفكراً رشيداً وقلباً جريئاً.
ودارت المناقشة، وتجلت فيها حرية الرأي سافرة ليس من دونها حجاب، سليمة لم تفسدها مداراة ولا مصانعة ولا تخوف. وانطلق العلم فيها على سجيته لا يتعثر في تركيب من تراكيب المؤلفين، أو لفظ من ألفاظ المصنفين، وسمعنا مبادئ لا نعدو الحقيقة إذا عددناها جديدة في جو الأزهر، أو حسبناها توجيهاً صالحاً للتفكير العلمي بين العلماء والطلاب، ومبدأ لتحول دراسي خطير في حياة هذا المعهد العظيم
وكان من المبادئ الجليلة التي سمعناها ما قرره فضيلة الأستاذ الإمام المراغي من أن الدين في كتاب الله غير الفقه، وإن من الإسراف في التعبير أن يقال عن الأحكام التي استنبطها الفقهاء وفرعوا عليها، واختلفوا فيها، وتمسكوا بها حيناً، ورجعوا عنها حيناً: إنها أحكام الدين، وأن من أنكرها فقد أنكر شيئاً من الدين، فإنما الدين هو الشريعة التي أوصى الله بها إلى الأنبياء جميعاً؛ أما القوانين المنظمة للتعامل والمحققة للعدل والدافعة للحرج فهي آراء للفقهاء مستمدة من أصولها الشرعية تختلف باختلاف العصور والاستعدادات، وتبعاً لاختلاف الأمم ومقتضيات الحياة فيها، وتبعاً لاختلاف البيئات والظروف. ولو جاز أن يكون الدين هو الفقه مع ما نرى من اختلاف الفقهاء بعضهم مع بعض، وتفنيد كل آراء مخالفيه، وعدها باطلة، لحقت علينا كلمة الله: (إن الذين فرقوا دينهم وكانوا شيعاً لست منهم