للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>

من الصور، كما يكون المارد بين الأقزام. فهذا الرجل الذي أراه أمامي، هو بعينه الذي أشعل ذات ليلة دخينة لإحدى المغنيات في بندر قريب، لا بعود من الكبريت كما يفعل عامة الناس، ولكن بإحراق رقعة من الورق تركها حتى أتت عليها النار بعد أن أشعل بلهيبها تلك الدخينة. ولم تك هاتيك الورقة بذات قيمة كبيرة، فهي من فئة الخمسة جنيهات فحسب!

واضطجع صاحب السلطان الزائل اضطجاعه فيها بقايا الكبرياء، ونظرت إلى وجهه فرأيت في سحنته خيال تعاظمه الماضي، واستكباره يحيط به خيال استخذائه الحالي ومسكنته. والحق لقد كانت نظراته مزيجاً عجيباً من العظمة والمذلة والرضاء والضجر والخجل والتبجح، ثم كان وجهه الشاحب يذكرني بتلك الصورة التي كانت تعلق على الجدران لمحاربة (الكوكايين)!

ووجهت إليه بعض عبارات التحية فرد في هدوء واتزان وهو ينظر إليّ نظرات من يريد أن يستوثق من صدق تحياتي، كأنه لا يصدق أنه اليوم أهل للتكريم بعد أن هلك عنه سلطانه. على أنه ينتمي إلى أسرة معرقة لا يزال لبعض أفرادها جاه عظيم وثراء، وإن كان ثراؤها لا يبلغ اليوم في مجموعه عشر ما كان لها منه بالأمس. ولعل خيال ذلك الجاه الباقي في أسرته هو الذي يجعل الكبرياء تتغلب في وجهه أحياناً على الاستخذاء وإن كان الاستخذاء قد بات وهو طابعه الجديد

وقدم إليه أحد الجلوس دخينة فتناولها في صورة عجيبة وفي وجهه إمارات توحي بأنه يفهم من هذه التحية أنها ضرب من إعطاء المحروم، وعلى شفيته ابتسامة تصور هذا المعنى وتبرز ما في قرارة نفسه منه. وأيد ذلك لي إسراعه بإخراج علبة الدخائن من جيبه وتقديمه دخينة إلى من سبق فقدم إليه مثلها، ثم إنه تقدم في خفة وظرف فيهما طيف أريحيته الماضية فأشعل الدخينة لصاحبه ولكن بعود من (الكبريت). . .

وأردت أن يتكلم لعل الحديث يميل به إلى الإفضاء ببعض ما يقوم في نفسه من هذه الحال التي تدلي إليها بعد عزة، ولكنه لزم الصمت، وكان صمته أيضاً يجمع بين الحياء والاستعلاء. . .

ودخل علينا شيخ من أهل القرية فما وقعت عيناه على ذلك البك حتى أقبل عليه في اهتمام شديد وهو لا يفتأ يكرر قوله: (شرفت بلدنا يا بك! أهلاً وسهلاً بابن الأكابر. دي البلد كلها

<<  <  ج:
ص:  >  >>