وأخذ ذلك الشيخ يفيض في وصف سجايا البك الكبير وأبهته وجاهه، ويحكي في ذلك الحكايات الطويلة، ويذكر الضياع التي عمل فيها بأسمائها، ويقارن بين ما كانت تخرجه من خيرات هاتيك الضياع، مستشهداً برأي البك الصغير كأنها لا تزال ملك يديه يتمتع بخيراتها جميعاً؛ ثم تنهد ذلك الشيخ وختم حديثه في سذاجة محبوبة قائلاً:(هيه سبحان من له الدوام! يا ابني ما تزعلش أنت ابن الأكابر على كل حال، وعندنا إحنا يا فلاحين نقول إن دبلت الوردة ريحتها فيها).
ومضى الشيخ وأنا أفكر فيما ضرب من مثل، وأنظر إلى تلك الوردة الذابلة فلا أحس من سابق رائحتها فيها، ويتملكني الإشفاق حيناً، ولكني أذكر الورقة ذات الجنيهات الخمسة وأتصورها مشتعلة في يده فينفي الإشفاق من قلبي شعور يكاد بقرب من الشماتة لولا أني أكره الشماتة، شعور هو في الواقع إحساس خفي بعدالة الجزء وتطابق الجريمة والعقوبة.
ولما ذكر أمامي اسم البك الكبير وذكرت ثروته الهائلة التي انتهت إليه هو أيضاً من والده، وموطن هؤلاء وأسرتهم الكبيرة قرية تقع غير بعيد من قريتنا، عجبت كيف بدد هذا البك الصغير الماثل أمامي أو هذا الشيطان الكبير ثروة أبيه على هذا النحو حتى لم يبق له منها إلا الذكرى.
وتكلم أخيراً صاحب ذلك السلطان الضائع، وكأن حديث ذلك الشيخ أثار شجونه، وأخذ يصف لنا كيف كان يعيش، وهو لا يدري أنه يسرد علينا قصة سفهه! ولعله كان يحس إن لم يبق له من الثروة إلا فخاره بما كان له من ثروة، إن كان ذلك من دواعي الفخار، ونسي سكونه الأول فأطنب وأفاض في غير تحفظ أو استحياء. ومن درر حديثه قوله:(يا ما شوفنا عز! دا الواحد كان يأخذ معه ألف جنيه إلى الإسكندرية فيعود بعد أسبوع ما فيش في جيبه غير أجرة الوابور. . . دا أنا كنت هرون الرشيدي اللي بيقولوا عليه).
وقلت وكان ذلك المال من إيراد أملاكك طبعاً، فلتعثم قليلاً وقال لو كان ذلك المال من إيراد أملاكي ما ضاعت أملاكي؛ إنما كان بعضه من الإيراد وبعضه من البنك، وآه من البنك. . . آه من البنك!.
وإذ ذكر لي البنك ذهب من نفسي كل عجب، فكم استدرج البنك من أمثال هذا الذي ورث