للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

ذكرني نصيب الفلسفة بيننا نحن المصريين منذ عشرات الآلاف من السنين، فلم يكن للفلسفة قط نصيب حسن بين المصريين أقدمين كانوا أم محدثين

لم؟ لأن الدولة القوية تنشأ إلى جانبها الكهانة القوية، ولأن الكهانة القوية قد استأثرت في مصر القديمة بالبحث عن حقائق الكون وأسرار الحياة، وأدخلتها في عداد المراسم الدينية التي تفرضها على الأفكار، ولا تسيغ فيها التجديد والابتكار

أما بعد انقضاء الدولة القديمة والكهانة القديمة فالاستعباد علة محققة من علل القضاء على الفلسفة في هذه الأمة، لأن الفلسفة هي المعرفة التي يطلبها العقل لذاتها أو يطلبها لذاته؛ فهي من مطالب الأحرار وليست من مطالب المستعبدين الذين يريدون ما يرادون عليه ويحصرون همتهم في المنفعة والجزاء

وقد ينبغ بين هؤلاء المستعبدين حكماء من معنى الحكمة التي هي اختبار واتعاظ وانتفاع بتجارب السابقين

أما الحكماء من معنى الحكمة التي هي نفاذ إلى كنه الحقائق، فظهورهم وارتفاع شأنهم بين المستعبدين مستحيل أو كالمستحيل

هاتان علتان أرضاهما لتعليل كساد الفلسفة بين أبناء هذه الأمة في الزمنين القديم والحديث، ولا بد من مرانة طويلة على الحرية قبل أن يزول هذا الأثر من آثار الاستعباد

ولكن هل العلة التي أرضاها هي العلة التي تطابق جملة الأسباب؟ وهل هي دون غيرها التي تطابقها، أو هنالك علل أخرى يقول بها من ليس يرضيهم من أمر هذه الأمة ما نرضاه؟

العلل التي تقال في هذا الصدد كثيرة، ومنها ضيق الواعية وانطباع الذهن على سهولة التفكير والتقيد بالمحسوسات والعمليات

ومنها قلة الجد والجلد وأخذ الحياة بالظواهر والوقوف بها عند السكك المطروقة والعادات المكررة التي تصد عن الإبداع وتغلق منافذ الاستغراب والتساؤل والاستطلاع

وكلتا العلتين تستند إلى الأخرى، وكلتاهما لا نرضاها ولا نجزم بنفيها لأننا لا نرضاها!

قلنا إن نعي برجسون ذكرنا أموراً تحزن وأموراً تبعث الرجاء. فهذا الذي يحزن وهو حزن هين في عرف الكثيرين!

<<  <  ج:
ص:  >  >>