ثم لنفرض ما يقوله بعض شراح نظرية النشوء والترقي صحيحاً من أن الإنسان أصله قرد نهض على قدميه. . . ثم ماذا؟
لقد سبق هو وتخلفت سائر الأنواع. . . إذا هو وحده كان محقوفاً بعناية الذي خلق الأنواع كلها حتى جعله في قمة الحياة العضوية الحيوانية، ثم بثق في رأسه بثقاً صار منبع عالم جديد عريض مخالف لسائر أساليب الحياة المعهودة، إذ جعله يصنع موجودات تفوق قدرة الحيوان، وقدرته هو على السرعة والاحتمال والنقل والسمع والبصر والتكبير والتجهير والتقريب، ولم نر غيره حيواناً يخترع آلة لصيد فريسته. ولم نر أمة من أمم النمل تخترع عجلة تحمل عليها الأثقال التي تعاني نقلها من مكان إلى مكان، ولم نر أمة من أمم النحل تفكر في دفع عدوان الإنسان على عسلها الذي تتعب وتدأب في جنيه واشتياره من رحيق الأزهار ونوار الثمار على كثرة ما جربت من غزواته لها، وكل حيوان يعيش في نطاق ضرورات حياته لا يتجاوزه. فلئن كان قانونا (الانتخاب الطبيعي) و (بقاء الأصلح) أقنومين عظيمين من أقانيم نظرية النشوء والترقي كما يعترف بذلك أنصارها - صديقي زكي منهم - فهما اللذان وضعا الإنسان هذا الموضع الممتاز. . . موضع القمة في سلسلة الأنواع. وما دام الإنسان استطاع أن يتغلب على سائر حيوان الأرض يستبقي منه ما له فيه نفع ويبيد منه ما يشاء ويجد من الطبيعة إقبالاً عليه وكرماً في إمداده بوسائل التغلب على ما يريد إبادته ولا يصده صاد عن اقتحام الغابات والأجمات والبحار والمناقع للصيد والتلهي بالقتل. . . ما دام الإنسان استطاع أن يفعل كل هذا والطبيعة تساعده على فعله فهو إذا الابن البكر للحياة في الأرض، وهو المقصود بها بحكم قانون (انتخاب الأصلح)، وهو وارثها لأنه الأقوى. . .
سيقول صديقي زكي:(وماذا أنت قائل في الجراثيم التي تفتك ببدن الإنسان لتعيش؟ تلك التي إن أفلح في نزع واحدة منها مما يسكن جوفه باضت له ألوف الألوف من صغارها؟)
وأقول: إن مصير هذه الجراثيم مصير غيرها من قطعان الوحش وسائر أعداء الإنسان التي تغلب عليها وتحصن منها وأوشك أن ينظف الأرض من غوائلها. . . وإن تاريخ كشفه لها قريب جداً، ومع ذلك استطاع أن يقيم أسباب المناعة منها في المسكن والملبس والمطعم والمستنشق. . . وما دام قد رصد حياتها وعرف أوكارها، وسلط عليها حرساً من