ولغة الغناء في مصر وعاطفة الغناء الرقيقة (المتهمة عند بعض الفضلاء) هي لغته وعاطفته في المغرب، والهند، وسوريا، وفلسطين؛ ثم هي نفسها عند الأتراك. وغاية القول أنها مشتركة في جميع بلاد الإسلام. . . فما السر في ذلك؟ والبحث وراء هذا السر هو الذي يجب أن يكون مجال القول. . . وكل ما عداه ضرب من الأوهام والأباطيل
السر في ذلك هو أن الإسلام طبعها بطابع الروحانية الرقيق النبيل. وكان القرآن الكريم أعذب ما يكون ألفاظاً يترنم بها ويتغنى. ومن منا لا يسبح في عوالم روحانية إذا مسه سحر من ترتيل (الشيخ رفعت)؟ ومَن من هؤلاء الدعاة يدلنا على طريقة أوقع أثراً في النفس من هذه الطريقة الرقيقة في ترتيل القرآن؟
أو ليس القرآن حافلاً بأبلغ معاني القوة وأبلغ معاني التوسل والدعاء وأبلغ معاني الوعيد؟. . . ولماذا ترى الناس يتلونه في نغم رقيق نبيل؟ ولماذا يشتد أثره وفعله إذا تلي كذلك وهو العظيم الأثر البالغ الغاية؟؟
السر في ذلك هو الوصول إلى مخاطبة المشاعر والروح قبل مخاطبة العقل، فيتذكر الإنسان ويتعظ. . . فتلك العاطفة النبيلة الضغط على النفوس، هي العاطفة التي سار على هديها الغناء في الشرق كله، وسلكت موسيقاه سبيلها. ومن هنا كانت الأغنية الوجدانية تدخل على النفس برقتها، فتهيج أشجاناً، وتحرك عاطفة، فيتذكر الإنسان العهود ويرتبط بالوفاء، ذلك الخلق النبيل السامي. . . وحين تكون الذكرى متصلة بالوفاء، يكون من ورائها الخير كل الخير والفداء والتضحية
. . . ليس في الأمر كارثة، ولن يكون فيه كارثة، لأن الأغنية منتزعة من صور الطبيعة المصرية السهلة الباسمة. . . هنا النيل ينساب في حلم كأنما يخشى أن يوقظ الشاطئ الحالم! والسماء أصفى من ضمير الوليد. . . ليس في مصر براكين ثائرة، وليس في مصر جبال شاهقة وعواصف وأنواء. . .
فكيف تنكرون أن يكون في الموسيقى هذا الصفاء وتلك الرقة؟ غيروا الطبيعة نفسها قبل أن تغيروا العواطف الصادرة عنها
من الغريب أن يعيب إنسان على جندي مصري أنه يتغنى بأغنية حب، وما علم أن هذا الجندي مقبل في يوم من الأيام على الموت. . . فمن الرحمة بنفسه أن يعيش على عبير