بينهم نبياً يزعم لنفسه الآيات حتى قال:(إني فكرت في الموضع الذي أقصده حيث نبت بي البلاد فأظلتني غمامة وخوطبت منها فقيل لي: أقصد البصرة)
ومن الدهاء العجيب الذي تحايل به صاحب الزنج أنه بدأ دعوته بين العبيد والدهماء والأراذل من الشعب فزعم أنه ناصرهم وخارج بهم من الذل والفقر والعبودية
ذكر ريحان - أحد أصحاب الأول - قال:(كنت موكلاً بغلمان مولاي أنقل لهم الدقيق، فأخذني أصحابه فساروا بي إليه وأمروني أن أسلم عليه بالآمرة ففعلت. فسألني عن الموضع الذي جئت منه فأخبرته. وسألني عن أخبار البصرة فقلت: لا علم لي. وسألني عن غلمان السودجيين وعن أحوالهم وما يجري لهم فأعلمته. فدعاني إلى ما هو عليه فأجبته فقال: أحتمل فيمن قدرت عليه من الغلمان واقبل بهم إلي. ووعدني أن يقودني على من آتيه به واستحلفني ألا أعلم أحداً بموضعه وأن أرجع إليه؛ وخلى سبيلي)
(وما زال يدعو غلمان أهل البصرة ويقبلون إليه للخلاص من الرق والتعب، فاجتمع عنده منهم خلق كثير فخطبهم ووعدهم أن يقودهم ويملكهم الأموال. وحلف لهم بالإيمان ألا يغدر بهم ولا يخذلهم ولا يدع شيئاً من الإحسان إلا أتى به إليهم)
وكان من الطبيعي وقد دخل هذا الأفاق على العبيد من هذا الباب وأطمعهم أن يكونوا أحراراً، بل وعدهم أن يملكهم الأموال وهم أنفسهم مملوكون لمواليهم، كان من الطبيعي أن يجد من نفوسهم قبولاً لدعوته وحماسة في الدفاع عنها
فهذا الرجل الماكر أقام دعوته على ثلاثة عمد وراسخ: أولها هذا النسب الشريف الذي ادعاه لنفسه متصلاً بالحسين بن علي. وثانيها دخوله على المستضعفين الأذلاء من العبيد حتى قال الطبري إنه جمع لدعوته الزنج الذين كانوا (يكسحون السباخ) وكذلك في النجوم الزاهرة. وهؤلاء يدفعهم ما هم فيه من البؤس والتعس والشقوة إلى المغامرة والاندفاع. وكيف بهم يقودهم رجل شريف من نسل الإمام على يمينهم وبعدهم ويجعل نفسه موكلا بخلاصهم من الرق والذل والفقر والهوان. ويصل نفسه بهم حتى يكون وهو الرجل الشريف (صاحب الزنج)
وثالث هذه العمد ادعاؤه النبوة أو ما هو قريب منها. وقد آمن بدعوته قوم من هؤلاء العبيد. وبذلك أثار في نفوسهم اشد ما فيها من العواطف قوة وجموحاً من العواطف: الإيمان والنفع