خطوط مرسومة وحلقات مفرغة ليعملوا في الأرض كما تعمل الثيران في الطواحين. . . تدور وهي لا تعلم أنها تدور ولماذا تدور. . . وضربهم بفتنة الدنيا، فزاغت منهم الأبصار عن الحقائق إلا في فترات الدين والصلوات. . . وحتى هذه أدركوها وهم في خمار المادة وسعار الشهوات، إلا قليلاً منهم وهم العارفون المدركون لأرصاد الطبيعة وشيء من تدبير الله فيها. . . لعله فعل هذا ليخفف عنهم دهشة الفكر في أعاجيب صنعه التي كلما زاد فيها الإنسان تفكيراً زاد حيرة. . .
وهؤلاء العارفون لو أطلعوا على الغيب لاختاروا الواقع وانصاعوا تحت حكم الأقدار، ولو في مقارنة الأضرار والأوصاب، إذ قد عرفوا أنهم لا بد أن يخضعوا ليشتركوا في حبك الخديعة التي أرادها الخالق المبدع لأطفال الحياة الذين هم جمهور الإنسانية العاملة التي عليها عمار الأرض بالأسلوب المادي المعروف.
وربما كانت غرائز القطيع العنيفة هي التي تنمي حركة الحياة الدنيا وتوسع آفاقها، كما ينمي عنف غرائز الطفل مستقبله ويوسع من آفاق حياته. . .
إذاً، فلا ملام على الأقدار التي تدبر كل شيء وتضعه بميزان ولا يجوز مطلقاً أن نتوهم أن حياة الإنسان بما فيها من أزمات ومآثم قد خرجت على الأقدار، وأنه قد فاتت على الله الغاية من خلق هذا النوع - كما توهم بعض من كتب إليّ منذ حين - فإن الإنسانية لا تزال في دور تفتح المدارك واستقبال الشباب، والشباب فيه لوثات كثيرة، ولا بد أن تتدرج إلى أدوار الرشد الخالص في كهولتها وشيخوختها، وأن تحقق الغاية من خلقها كما أراد ربها. . .
وكل مآثم الحياة الإنسانية وأزماتها قد تغتفر ويجد الفكر لها تعليلاً، إلا الفكر بخالق الحياة أو الإشراك به!
وكذب من يريد خديعة نفسه وخديعة الطبيعة وخديعة رب الطبيعة!
ذلك الذي يريد أن يفرض للحياة الفكرية الإنسانية مبدأ غير نقطة البدء التي يراها الفكر أول حياته ومفتاح عالمه. . .
كذب وضل ضلالاً بعيداً وخسر خسراناً مبيناً، وقلب الحياة على أم رأسها وأم رأسه!
إن نقطة البدء في الحياة الفكرية، هي الفكر في صاحب الدنيا: هذا البيت الكبير الهائل