الذي جاء بنا إليه وأسكننا فيه من غير اختيار منا. . . الفكر فيه حتى نعرفه وندرك طرق تسييره للحياة والطبيعة، فنسير على خطواته وأسلوبه. . .
إنه مجهول للحواس ولكنه معلوم للفكر. . . وقد رأينا ظل يده يقع على كل شيء ويضع كل شيء في موضعه.
ومن أضلُّ ممن يأخذ أطفال الحياة أول نشوئهم ويباعدهم عن نقطة البدء هذه وبعضهم في مكان سحيق، فيستمر أول الطريق عندهم مجهولاً وآخره مجهولاً، ووسطه مختلطاً مشوشاً كذلك!
الجناية الأولى هي إهمال الفكرة الأولى: وهي السؤال عمن جاء بنا إلى هنا، ويمضي بنا كعابري سبيل. ومن وراء الجناية الأولى تتلاحق أخواتها التي تجعل الحياة أغلاطاً مسلسلة.
إن انفصال جنين إنساني من رحم أمه حادث عظيم ينبغي للإنسانية أن تتلفت إليه وتوليه أجل عناية؛ فلعل في الوليد حلقة جديدة فائقة تحمل سراً جديداً من أسرار تكوين هذا النوع.
ولكن الإنسانية أو الدولة تجني على نفسها إذ تهمل وصل كل عقل ناشئ بمفتاح الحياة، ومفيض فيضها ومرسل رحماتها.
وكأن الوثنية لم ترتفع بعض آثارها من الأرض للآن. . . وما الوثنية؟ هي انصراف العقل الإنساني عن الفكر في مصدر الحياة وما يليق له من الكمالات وعن شكره الدائم ما دامت آلاؤه وفيوضه تملأ النفس بالحياة وتتواتر على الجسم. . . ثم الركون إلى حجر أو بشر أو شيء من الأشياء ينسى الإنسان معه الإحساس بالحياة ورب الحياة ويستغرق في ذلك النسيان حتى يتعبد ويلوذ بما ركن إليه. . .
وها نحن أولاء نرى في هذا العصر آلهة منصوبة من المتاع والشهوات والآلات والأعمال والصناعات يستغرق عقل الإنسان فيها حتى ينسى صاحب الحياة. . .
قد يظن ظان أني مغال في الصوفية حين أدعو إلى أن يكون عقل الإنسان دائماً مرآة لشعاع ساقط من سماء الله. . . ولكن هذا هو الوضع الأصيل الحقيقي للدين على ما أفهمه وعلى ما فسرته به في مقال سابق من أنه الإحساس الدائم بالحياة والفكر في مبدعها لتكون ذاتها وآلامها وأطرابها وأوصابها صوراً وألواناً من العبادة. . .