للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

شهقت معه من البحر أملاً، وكلما زفرت نفساً زفرت معه إلى البحر هماً. لقد كنت أتبادل الأنفاس مع البحر، هذا الوحش المحبوس عن الأرض الراضي بالحبس.

لقد كنت أحبه. ولقد أحبني هو أيضاً فأعطاني الكثير من نفسه: جلداً، وصبراً، وصفاء، وغنى، وحياة، وقوة. . . ومسكنة مع هذا كله وذلاً.

لقد سبحتك فيه يا رب لأني كنت أراه وأبادله الحب، وكان عقلي أصغر من أن يؤمن بك غيباً

ثم ألست أنت صاحب تلك الماسة التي كانت تريق عليَّ أضواءها فأشرب منها وأشرب وأشرب وأنا لا أدري لماذا لا أرتوي على كثرة ما أنا شارب حتى علمت أن ما كنت أشربه لم يكن إلا نوراً، والإنسان لا يريه النور وحده إن لم يمزجه بشيء من الظلمة. فلما بحثت عن الظلمة انفلت النور مني، وكف يده عن أوتار قلبي.

من يومها يا رب وأنا غارق في ظلمات وظلمات ولكن بعد أن آمنت بالنور. فاللهم شعاعاً، رحمة منك وعزاء.

ثم ألست أنت صاحب حديقة النزهة. . . أنت صاحبها رغم أنف المجلس البلدي

كنت كلما اكتأبت وثقلت علي واجبات الجبر والكيمياء، وأرهقتني حياة المدرسة الجافة التجأت إلى النزهة أفرغ فيها ذبولي وآخذ من أزهارها وأشجارها نضرة. . . وبهجة. . . واطمئناناً وفرحاً. . .

ما أكرمها الأشجار والأزهار! ما أحلاها! إنها تتضور حباً، وتشرئب إلى عاشق يهفو إليها بنظرة. . . وخفقة.

وما أقسى عشاق الأشجار والأزهار. . . أطمعهم صمتها وسكونها واستسلامها فانهالوا عليها قطفاً. . . والقطف قتل. . . وأكرمهم يجود عليها بشعر. والشعر كلام. . .

إنني لم أسرف يا رب في قطف الأزهار، واسألها

كنت أقنع بالذي تنفثه هي راضية من الحنين المؤمل، والشهوة المتبخرة الرطبة. . . وكنت أعوذ عنها إلى المدرسة وأنا كالقرنفلة الناطقة الحية: أبذر في قلوب الناس حباً أبعثره وأبعثر وراء من تلك الزأرة التي أعطانيها حبيبي الأزرق ذو الأمواج وذو الأنفة!

ثم ألست أنت صاحب هذه السماء التي كنت أنقلب على الرمال إليها لأسرح بنفسي فيها

<<  <  ج:
ص:  >  >>