(قال أبو إسحاق الحصري حين عرض لكلام بديع الزمان: - كلامه غض المكاسر، أنيق الجواهر، يكاد الهواء يسرقه لطفاً، والهوى يعشقه ظرفاً؛ ولما رأى أبا محمد بن الحسن بن دريد الأزدي أغرب بأربعين حديثاً، وذكر أنه استنبطها من ينابيع صدره، واستنخبها من معادن فكره، وأبداها للأبصار والبصائر، وأهداها للأفكار والضمائر، في معارض عجمية وألفاظ حوشية، فجاء أكثر ما أظهر تنبو عن قبوله الطباع، ولا ترفع له حجبها الأسماع، وتوسع فيها إذ صرف ألفاظها ومعانيها في وجوه مختلفة وضروب متصرفة، عارضها بأربعمائة مقامة في الكدية، تذوب ظرفاً وتقطر حسناً؛ ولا مناسبة بين المقامتين لفظاً ولا معنى، وعطف مساجلتها ووقف مناقلتها بين رجلين، سمى أحدهما عيسى ابن هشام، والآخر أبا الفتح الإسكندري؛ وجعلهما يتهاديان الدر ويتنافثان السحر، في معان تضحك الحزين وتحرك الرصين، يتطلع منها كل طريفة، ويوقف فيها على كل لطيفة، وربما أفرد أحدهما بالحكاية، وخص أحدهما بالرواية). أنتهي النص
وأنا أؤكد لحضرات القارئين أن قول الدكتور (وكان المعروف أن بديع الزمان الهمذاني هو أول من أنشأ المقامات) لم يكن المعروف وإنما كان المنكر الذي ينكره التاريخ ويبرأ منه الأدب قديماً وحديثاً، وإنما هي مقدمة ساقها الدكتور باطلة ليبني عليها تلك النظرية التي طنطن بها وعج. وليسمح لي صديقي أن أعيد على مسمعه ما سبق أن رميته به من قلة الاطلاع، فإن ذلك النص التاريخي لم يكن هو الذي كشف عنه. وكيف وقد كان نصاً معروفاً متداولاً نقله كثير من الأقدمين تدليلاً على أن البديع لم يكن المنشئ الأول للمقامات، كابن خلكان وياقوت في كتابيهما وفيات الأعيان ومعجم الأدباء، وكالشريشي في شرحه لمقامات الحريري. ولولا ضيق (الرسالة) في هذى الظروف لنقلت نصوص هؤلاء الأعلام، ثم لذكرت غيرهم وأتيت على نصوصهم، في سبيل نقض الدعوى التي ادعاها الدكتور، تلك التي أخجل أن أسميها دعوى بالمعنى المعروف لأنها ظاهرة الفساد والبطلان، وليس للخصومة بشأنها أي مجال، ولكن صديقي حين صادفه هذا النص وهو يقوم بما يقوم به في زهر الآداب - بتكليف من طابعه الحاج مصطفى محمد صاحب المكتبة التجارية ولولاه ما كان عثر - أعتقد أنه عثر على ما لم يعثر عليه إنسان، وأنه بهذا الكشف عن