يجب أولا أن نفهم أن العرب لم يدونوا أخبار الفتوحات يوماً بيوم، كما يصنع الناس في هذا العهد. فقد كان العرب محمومين بالقتال والصيال، وهل دونوا القرآن إلا بعد الخوف عليه حتى يهتموا بتدوين أخبار الفتوحات؟
إذا فهمنا هذا أدركنا بسهولة أن من دون من أخبار فتح مصر لم يكن إلا صورة من التاريخ المزخرف، وهو تاريخ يمثل عقل الكاتب أكثر مما يصور الواقع، وإلا فكيف جاز أن يتفق عمر بن الخطاب مع عمرو بن العاص على خطاب يتلقاه عمرو في الطريق وفيه هذه الكلمات:(إن أدركك كتابي هذا قبل أن تدخل مصر فأرجع إلى موضعك، وإن كنت دخلت فامض لوجهك. . .)
ليس هذا خبراً من الأخبار، وإنما هو أقصوصة من الأقاصيص؛ فعمر بن الخطاب لا يسير جيشا لفتح مصر إلا وهو مصمم على ضم مصر إلى الممالك الإسلامية. وعمر بن العاص لا يدافع رسولا يحمل إليه خطاباً من أمير المؤمنين، كما تشاء (القصة) أن تقول لغرض شريف هو وصف عمر بالحذر، ووصف عمرو بالإقدام، وكذلك وصف عمر وعمرو في أكثر ما تحدث به القصاص، وهم أقطاب التاريخ المزخرف في شباب العصر الإسلامي
ثم أنتقل الأديب المجهول إلى وصف الحوار الذي دار حول حصن بابليون، وهو حوار ترى فيه المقوقس يتكلم اللغة العربية بفصاحة يصورها هذا التحذير الطريف:
(إنكم قد ولجتم بلادنا، وألححتم على قتالنا، وطال مقامكم في أرضنا، وإنما أنتم عصبة يسيرة، وقد أظلتكم الروم وجهزوا إليكم ومعهم العدة والسلاح، وقد أحاط بكم هذا النيل، وإنما أنتم أسارى في أيدينا، فابعثوا رجالا منكم نسمع من كلامهم، فاعله أن يأتي الأمر فيما بيننا وبينكم على ما تحبون ونحب، وينقطع عنا وعنكم القتال قبل أن تغشاكم جموع الروم فلا ينفعنا الكلام ولا نقدر عليه، ولعلكم أن تندموا إن كان الأمر مخالفا لمطلبكم ورجائكم، فابعثوا إلينا رجالاً من أصحابكم نعاملهم على ما نرضى نحن وهم به من شيء)
ثم يتلطف الأديب المجهول فيجعل رسول عمرو إلى المقوقس هو عبادة بن الصامت مع جماعة من الفرسان، فلأي غرض تخير عبادة لذلك اليوم المشهود؟
أنا أفترض أن الفن الأدبي هو الذي قضى بذلك التخير، فقد كان عبادة أسود، وكان العرب