يعيرون بالسواد، فلم يكن بد من قرن الشجاعة بالسواد ليصبح وهو من مزايا الرجال
المقوقس: كيف رضيتم أن يكون هذا الأسود أفضلكم، وإنما ينبغي أن يكون دونكم؟
أصحاب عبادة: إنه وإن كان أسود، كما ترى، فإنه من أفضلنا موضعاً، وأفضلنا سابقة وعقلاً ورأيا، وليس ينكر السواد فينا
المقوقس: تقدم يا أسود، وكلمني برفق، فإنني أهاب سوادك
عبادة: قد سمعت مقالتك، وإن فيمن خلفت من أصحابي ألف رجل كلهم مثلي وأشد سوادا مني
من هذا الحوار نفهم أن ذلك الأديب المجهول قد أتجه إلى الدفاع عن اللون الأسود، وهو لون كان يعير بع العرب في بلاط كسرى وبلاط قيصر، وشعور العرب بالتأذي من السواد هو الذي فرض على شعرائهم أن يكثروا من التغني بالبياض، وهم لم يجعلوا (البياض نصف الحسن) إلا لكثرة ما عيرهم الناس بالسواد، وهل كانت رسالة الجاحظ في تفضيل السود على البيض إلا دفعاً لما تأذى به العرب من أراجيف الشعوبية وهم قوم ألحوا في تعيير العرب بالسواد؟
أنا أفترض أن سواد عبادة له دخل في جعله رئيس القوم عند محاورة المقوقس وقد شجع عبادة وهو أسود، وجبن المقوقس وهو أبيض، ليظهر الأديب المجهول فضل الأخلاق على الألوان، إن لم أخطئ في هذا الافتراض
ولكن ما الغاية الأصيلة لذلك الحوار الجميل؟
هو حوار يصور الخصائص الإسلامية في أدب النفس، وينفي عن العرب تهمة القول بأنهم لم يفتحوا الممالك إلا حبا في المغانم الدنيوية
لهذا نرى الأديب المجهول ينطق رسل المقوقس إلى عمرو بهذه الكلمات:
(رأينا قوماً الموت أحب إلى أحدهم من الحياة، والتواضع أحب إليهم من الرفعة، ليس لأحدهم في الدنيا رغبة ولا نهمة، وإنما جلوسهم على التراب، وأكلهم على ركبهم، وأميرهم كواحد منهم، ما يعرف رفيعهم من وضيعهم، ولا السيد من العبد، وإذا حضرت الصلاة لم يتخلف عنها منهم أحد)
فهذا كلام مصنوع قد أبتدعه ذلك الأديب المجهول ليصور شمائل المسلمين على ألسنة