دوت تلك الصرخات في شعاب الصحراء، وفعلت في النفوس كما يفعل السحر، ونزل الثائرون على حكم (عمر)؛ عزمهم جميع وقبلتهم واحدة
وهكذا يكتب لهذا البطل الظفر على نوازع النفوس، وينبسط سلطانه على نزوات القلوب، ويستل السخائم والترات بهدى الدين، وبترياق الإخلاص
أحصى الرواة (لعمر) ألف معركة أشتبك فيها مع الطليان في اثنتين وعشرين سنة، وهو يتعقبهم، وهم يحتالون لأمره، ويتحيرون في القضاء عليه، ويستبدلون القائد بالقائد، وعمر وحده هو القائد الصامد، حتى ظنوا - آخر المطاف - أنهم قد رموه بالداهية الدهياء (بجرازياني)
ويتحدث جرازياني في مذكراته: أنه قد نازل عمر في ثلاث وستين ومائتي معركة، كانت مدتها عشرين شهرا وعمر - كما وصفه شوقي -:
لم تُبق منه رحى الوقائع أعظماً ... تبلى، ولم تبق الرماح دماء
كان عمر قافلاً إلى برقة من رحلة له في مصر يصلح ذات البين، فلقيه عسس الطليان وتصدوا لقتاله وهم في سيارات ثلاث، مسلحات فتاكات مزودات، وعمر فوق صهوة جواده، وسلاحه سلاح أبناء الصحراء، فما هو إلا أن كر كرة في حصانه اليقين وثبات المؤمنين؛ فإذا بالسيارات الثلاث، وقد صرن سلباً وغنائم، وإذا بأصحابها الطليان، وقد صاروا خبراً من الأخبار؛ ولله إلهام شوقي:
بطل البداوة لم يكن يغزو على ... (تنك) ولم يك يركب الأجواء
لكن أخوخيل حمى صهواتها ... وأدار من أعرافها الهيجاء
ما نسى جند عمر ولا قواده: أنهم يحمون عقيدة، وأنهم جند الله. . .
ويا ما أروع وأرهب الصورة التي يصفها عمر لموقعه وكرسه بالجبل الأخضر، وقد حانت صلاة الظهر، وقائد الموقعة الشهيد (الفضيل أبو عمرو)، فقسم الجند طائفتين، وصلى بهم صلاة الخوف، فطائفة تأخذ حذرها وأسلحتها، وطائفة تتوجه إلى ربها وقد انجلت الموقعة هن قتلى عددهم خمسمائة طلياني بينهم (ماجور) وثلاثة ضباط
أعجز الطليان شأن عمر، وأعياهم أن يأخذوه أخذ الجند للجند، فهو لا يضجر ولا يستخذي، فأعملوا السفارة بينهم وبينه ليتهادنوا، وأرادوا أن يعرفوا شرطه لوضع السلاح وحقن