وأما الحادث الثاني، فما حكي عن رجل من أهل مصر قدم على عمر، فقال: عائذ بك يا أمير المؤمنين! فقال رضي الله عنه: عذت بمعاذ! فقال: لقد ضرب ولد عمرو بن العاص ولدي (وكان عمرو يومئذ عامله على مصر)، فأرسل في طلبه معه ولده واستقاد من الولد والوالد جميعاً؛ ثم أقبل على عمرو وقال: يا عمرو بماذا استعبدتم الناس وقد ولدتهم أمهاتهم أحراراً؟
هذه الأمثلة، على قلتها، تريك مبلغ ما يدعو إليه الإسلام من الرحمة بالمقهور والرقة له، وإقامة العدل بين الناس، مهما يكن الفرق بين الظالم والمظلوم، وأخيرا توطيد الحرية وتوكيدها على أنها حق طبيعي للإنسان، كائناً من كان
أما الحرب في هذا العصر، فلقد صارت إلى ما ترى، وهي إن امتازت بشيء فأبرز ما في وجوه هذا الامتياز أن ضحاياها وصالو حرها من المستأمنين الوادعين، أصبحوا أكثر كثيراً ممن تجردوا للقتال، واستنفروا للكفاح والنزال؛ بل لقد تعدل الموبقات القواصف من الطائرات عمداً عن المسالح ومستودعات الذخائر، وثكنات الجند، وغير ذلك من أسباب الحرب، إلى دور المستأمنين، حيث المرأة ترضع ولدها، وحيث الرجل الذي نام ليستجم للعمل من بكرة الصباح إلى غاية النهار الأطول، سعياً على الأم الشيخة والزوج والطفل الثلاث أو الأربع، وحيث المريض المدنف يتلوى على الجنبين من ألم وعذاب - لقد تعدل تلك المدمرات القواصف إلى هؤلاء عمداً، وتزلزل بهم الأرض زلزلة، وتدمر الدور تدميراً، فإذا هؤلاء أجزاء تتناثر، وأشلاء تتطاير. فمن سلم منهم على الموت، فليستقبل حياة شرا من الموت
فإذا جاءك أن الإسلام فتح كل هذا الفتح، وملك كل هذا الملك، وانبسط له على وجه الأرض كل ذلك السلطان في أقل من قرن واحد، فإن السر لا يعدو ما قدمنا لك من قوة الأيمان، وإشاعة العدل بين الناس، وإيثار الرقة والرحمة بالإنسان وبالحيوان!
وإذا طلعت عليك الأنباء في كل صباح وكل مساء بأن الجيش اليوناني الصغير الضئيل لا يفتر لحظة عن صفع الجيش الطلياني الضخم الكثيف باليد، وركله بالرجل، إذ لا يكاد يرى فيالقه وكتائبه إلا من الأقفاء من انهزام إلى انهزام - إذا طالعتك الأنباء كل ساعة بهذا