أضحت تصوغ بطونها لظهورها ... نورا تكاد له القلوب تنور
من كل زاهرة ترقرق بالندى ... فكأنها عين إليك تحدر
تبدو ويحجبها الجميم كأنها ... عذراء تبدو تارة وتخفر
حتى غدت وهداتها ونجادها ... فئتين في حلل الربيع تبختر
مصفرة محمرة فكأنها ... عصب تيمن في الوغى وتمضر
وقال البحتري مخاطبا الوزير الفتح بن خاقان:
أتاك الربيع الطلق يختال ضاحكا ... من الحسن حتى كاد أن يتكلما
وقد نبه النيروز في غلس الدجى ... أوائل ورد كن بالأمس نوما
يفتقها برد الندى فكأنه ... ينث حديثا كان قبل مكتما
ومن شجر رد الربيع لباسه ... عليه كما نشرت وشيا منمنما
أحل فأبدى للعيون بشاشة ... وكان قذى للعين إذ كان محرما
ورق نسيم الريح حتى حسبته ... يجييء بأنفاس الأحبة نعما
وبعد: فأن لكل ظاهرة من ظواهر الطبيعة رسالة بليغة تؤديها إلى النفوس الشاعرة والفطر السليمة. فليت شعري أية رسالة يحملها الربيع إلى ذوي القلوب الواعية منا؟ قابل أيها القارئ بين الشتاء والربيع، بين رقدة الطبيعة ونهضتها، وان شئت، فبين موتها ونشورها، فستجد هذه الدورة على قصر أمدها قد تضمنت حكمة الحياة كلها. وإلى هذه الحقيقة يشير الربيع في رسالته إلى الناس!
(أن الطبيعة أيها الناس هي الأول والآخر، والأصل والمال من طيباتها تبنون ابدانكم، ومن جمال منظرها وروعة سحرها نمت عواطفكم وألهمتكم فنونكم وآدابكم. ومن تصرف سنتها واختلاف مقاديرها يسرا وعسرا، أملا وباساً وعافية وبأسا ألهمتهم عقائدكم ومللكم. ومن دقة هذه السنن واطرادها استبنتم أصول شرائعكم ونظمكم، ومن الصبر لأحكامها تكونت أخلاقكم فان تكن أجسامكم قد ضويت، وعواطفكم قد خبت، وعقائدكم قد وهت، وشرائعكم قد قست، وأخلاقكم قد رثت، فما ذلكم إلا لأنكم عققتم أمكم الحنون، وجفوتم ظئركم الرءوم. فإلى الطبيعة ايها الناس، إلى الطبيعة فهي وحدها الكفيلة بإزاحة عللكم، وجبر مصابكم. وهي القادرة على أن تنشئكم نشأة أخرى، وتبعثكم خلقاُ جديداً.