حول الشجاعة إلى وحشية وإسراف في سفك الدماء، كأن ذلك حرفة. . .
وحول الكرم إلى إسراف في مقومات الحياة وتفريط في بنائها المادي، حتى لا يحصل تمدين فيستقر السلام، فيكون وراءه عمران مستفحل وخدمة باقية في الذريات والأعقاب، للتحضير والترقية والتهذيب. . .
وحول البيان إلى شقاشق تهدر ثم تضيع، وأناشيد ترسل فيما لم تخلق له؛ إذ تسجل المخازي وتعرض العورات على الأسماع، وتهيم بأصحابها في أودية الخيال. . .
وكان يعلم أن الظلم والشرك والعبودية والجهالة - وتلك هي قوائم عرشه - ستهدم بأيدي هذه الأمة، وأن ألاعيبه وتماثيله التي كان يملأ بها معابد الأقوام وجوانح إنسانية الشرق والغرب ستتركها معاول العرب حطاماً وجذاذاً. . . . فجعل من بينها سداً ومن خلفها سداً، وغشى أبصارها عن إدراك مواهبها ومكارمها وما عندها من الفطرة الصادقة. ووضع همه الأول في تفريق قلوبها وتمزيق وحدتها، ووسوس لكل قبيلة أنها أمة لها دم خاص منحدر من ماء السماء وضياء النجوم. . . وإلى كل فرد أنه خير هذه الأمة، وأنه عملها المفرد، وبدرها والفرقد! فغنى لنفسه وشرب على هواها مع النجوم في ظلمات الليل، ومع الشمس والشياه والبعران في مراعي الصحراء. . .
وفي الأرض أمامه سعه ومذهب لكل من أراد الاستقلال والتملك. . .
وفي السماء هول وعظمة يغريانه بمد آفاق نفسه كما يشتهي. . .
وفي القلب الإنساني حطب ولهب لكل فرقة ولكل شرود وجموح فلا عليه أن ينشد الإمارة ولو على الحجارة. . .
يا لهذه الصرخات الدائمة في أذن الصحراء من حناجر فتيان هذه الأمة!
يا لبكر. . .! يا لتغلب! يا لمضر! يا لربيعه! يا لعدنان! يا لقحطان! يا لكل قبيلة على كل قبيلة!
وسباع الأرض وهوامها وخشاشها، وعقبان السماء ونسورها، تتسمع إلى هذه الصيحات وتتبعها؛ لأنها أبواق دعوتها إلى الولائم التي تقام من الدماء التي تشخب، والبطون التي تبقر، والأكباد التي تفرى، والقلوب التي تسحق، والعيون التي تفقأ، والأشلاء التي تتناثر.