إذن لقد هدى الجد الموفق أبا ذر إلى أحد أصفياء الرسول السابقين إلى الانتهال من معينه، الراغبين في نشر دينه
ولكن الظلم يومئذ كان للمؤمنين بالمرصاد، وكانت متابعة محمد يومئذ تكلف فاعلها ما لا صبر معه إلا أن تكون الحسنى قد سبقت له من الله هذا، وقد كان من دون لقاء الرسول أذى كثير
على أن عليا ذلل الصعب، فبلغ القريب غايته، وحظي بلقاء الرسول، وسمع الحكمة منه وفصل الخطاب
ووضحت المحجة لأبى ذر، واستضاء الحق أمامه، كأنه النهار إذا تجلى، وعرف الرب الذي طالما حن إلى معرفته. . . فأسلم مكانه ليكون من السعداء بالكرامة قبل أن تكون كرامة، وبالهداية قبل أن تكون هداية، وليكون من المؤمنين القليل قبل أن يكون مؤمنون كثير!
وقال له الرسول رءوفا به رحيما:(ارجع إلى قومك فأخبرهم حتى يأتيك أمري) ولكن أبا ذر كان من إيمانه كالنهر الطافح الفياض لا بد أن يهدر بما فيه وبتدفق على ما يلاقيه، فهو يجيب الرسول في لغة الواثق بربه، المعتز بعقيدته، المتفاني في حبها والدعوة إليها (والذي نفسي بيده لأصرخن بها بين ظهرانيهم)
ألا فليصرخ أبو ذر بها، فما أعذب وما أحلى!! وما الظلم، وما البطش، وما الناس، وما الدنيا تلقاء إيمان أقمر في الصدر فأضاء جنباته؟ ما الآلام توجع الضعيف، وما الإهانة تلحق الأبي، وما الموت نفسه يلحق بالحي ما دام يحرز إيماناً بنيله رضوان الله وإعزازه، وبنيله الآخرة التي هي الحيوان؟!
أتحسبها كلمة كان أبو ذر قائلها طواعية لعاطفة ملتهبة تنثني بعد حين هامدة؟ كلا! لقد خرج حتى أتى المسجد - وأهل المسجد يومئذ هم ما هم كراهية مجنونة لمحمد وأتباعه، ورغبة متسعرة في حسم شأفتهم جميعا - خرج حتى أتاهم فصاح بها ما وسعه الصياح، صاح بالشهادة: شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله!
وكان ما كان مرتقبا. كان أن ضربوه حتى أضجعوه، ولم ينقذه منهم إلا العباس الذي أكب