فأجاب الرجل بالنفي، وأعلن عن رجائه الحار ألا يكون الشاب أصيب بالحمى الخبيثة، فصمت الطبيب ملياً يفكر في هذه الأعراض ويزنها بميزان اختباراته وعلمه، وكانت السيارة في أثناء ذلك تخترق الطريق الزراعي بسرعة البرق حتى بلغت العامرية وانعطفت إلى حاراتها الضيقة ثم وقفت أمام دار كبيرة، فدخلا معاً واستقبلتهما أوجه كثيرة بأعين يقتتل بها الخوف والأمل، فساوره القلق وتلبسه شعوره حين تعرض لأول مريض بدأ به حياته التمرينية في قصر العيني منذ ثلاثة أعوام، فاستصرخ قوة إرادته ليضبط بها وجدانه ويجتاز هذه التجربة الجديدة بالنجاح، وأغضي عمن حوله وسدد انتباهه إلى الشاب الراقد بين يديه، وكشف عليه بعناية فائقة وفحصه فحصاً دقيقاً فترجح لديه أنه مصاب بالتيفود، وأبدى رأيه في تحفظ وقال إنه ينبغي أن يفحص المريض في اليوم التالي ليستوثق من رأيه، فلا آمنهم من خوف ولا أفقدهم الأمل، وظن أنه ضمن لنفسه أن يتردد على المريض حتى يبلغ به الشفاء بفنه أو يودعه القبر بأمر الله. ثم أخذ حقيبته واتجه نحو الباب بخطى وئيدة كأنه يريد شيئاً، فلحق به والد المريض وهمس في أذنه قائلاً:(تفضل) فخفق قلبه لثالث مرة ذاك اليوم ومد يده وهو يقول: (شكراً) فأحس بثلاث قطع من ذات العشرة قروش توضع بها، ثم جلس في السيارة منفرداً هذه المرة، وانطلقت به في طريق العودة؛ وكانت هذه أول مرة يدعى فيها إلى زيارة مريض في بيته، فاغتبط ورضى وأشعل غليونه وراح يدخن بحالة من السرور لم تخل من اضطراب عصبي فأخذ (أنفاساً) سريعة فتوهج التبغ وسخن الغليون، ولم يستمر في التدخين طويلاً فوضعه في جيب الجاكتة الأعلى وأرسل بناظريه خلل زجاج النافذة يشاهد الحقول الممتدة على جانب الطريق الغارقة في الأفق البعيد، وكانت تنتهي عند الطريق الزراعي بجدول من الماء ينساب صافياً تستحم فيه أشعة الشمس المائلة للغروب وتغشاه بنور لألاء بهيج يخطف الأبصار؛ فاستسلم لسحر الرؤية، وشعر بتخدير لذيذ، حتى انتبه إلى تغير غريب يسري في صدره وجسمه فتحولت أفكاره من الخارج إلى الداخل فأحس بسخونة تنتشر في أعضائه جميعاً كأن حرارته ارتفعت بغتة، فتململ في جلسته وحرك رقبته بعنف، ثم لم يحتمل شدتها فخلع طربوشه وفك أزرار الجاكتة وأخرج منديلاً يروح به على وجهه وهو يعجب أشد العجب لأن الجو كان معتدلاً لطيفاً، واشتدت وطأة السخونة والتهب جسمه بالحرارة، فجس خديه