المصريين قاطبة عوام، وكأن الفصحى ليست في شئ مما يصلح للغناء ولم تغن بها مدنيات قبلنا، وكأن الأمم الحية لا تغني الآن في لغاتها إلا بعبارات الأوباش من أبنائها. والأغنية محدودة في قليل من الجمل، ولولا تكرار المغني لكلماتها - وأي تكرار - لما أستغرق غناءه دقائق معدودات
تبدأ الموسيقى بمقدمة هي جزئ من بشرف، أو بشرف في الأندر، أو تقليد أين هو من البشارف؟ وهي حين تعزف واحدة منها تقطعه بما تقحم فيه من تقاسيم بالمعازف تنبو لهجتها الطافحة شجوا عن لهجة البشرف الناطقة عن أحاسيس الرجولية، ولو اتفقتا في النغمة، فتكدر صفاء لحنه وتعرقل تسلسله وتسربه في الآذان، وتضعف قوة أخذه في الأنفس الواعية وشدة أسره فلا تجد منه كل الطرب وهو عند تتابع روائعه واتصالها مطرب جد مطرب
وهذه المقدمة الموسيقية تباين ما بليها من غناء وإن كان لحنها ولحنه من نغمة واحدة، كنغمة الصبا أو البياتي، إذ أننا لم نفطن بعد للدلالة الصوتية ولم نزكن معنى الإنشاء الموسيقي، أو لم نسمع عنه شيئا
ثم أن الموسيقى تصاحب الغناء أو تتخلله، أي تعزف وتسكت، وتارة تخافت بلحنها مع بعض جمل الأغنية أو بعض كلماتها، وطورا يأتلف لحنها مع الغناء والأغنية، ويختلف أطوارا بمتباينة دلالاته الصوتية المتضاربة لدلالاتهما: إذ يثب اللحن الموسيقي بمدلولاته من البكاء إلى المرح مثلا، أو من الضعضعة إلى الثورة أو الرقص بينما يقيم المغني بغنائه مناحة حاميه، يشغف بها أذان المستمعين. ذلك بأن ملحن الموسيقى ليس يعرف اللحن إنشاء يتوخى فيه صاحبه أن يجعله معبراً للمستمع عن ذات ما يصل إلى سمعه من الموسيقى من معاني الأغنية والغناء بها؛ ولا يدرك أنه لا ينجح في صنيعه إلا بإحكام الدلالات، وإتقان المطابقة بينها، وتحسين الأسلوب بمحسنات صوتية توائم سياق اللحن الأساسي. وإنما هم الملحن أن يتلقط عبارات صوتية يظنها مؤتلفة لمجرد نظمه إياها في نغمة الأغنية، وقد تكون الواحدة من هذه العبارات مطربة في ذاتها، لو سمعت على حدة، وإن باينت أخواتها في لحنه وهو لا يدري؛ لأنه لا يقصد سوى التجعيد في اللحن والتوشيع بما يأخذ أو يسرق من هنا وهناك، ولا يلاحظ إلا ضبط الأقيسة وإحكام الوقف أو (المحط)