لتمكين المغني من استئناف الغناء ولإظهار أنة لم يخرج عن النغمة
الأقيسة والمحطات! ذلك وحدة ما يعني به الملحنون والعازفون وما فيه يتبارون! ولذلك يبرزون القياس أي (الوحدة) بالدف أو الطبلة في عزفهم الألحان؛ وليس هذا موضع فخر لمنتحل الفن، إذ هو شئ أولي، دون مستوى الفن الرفيع؛ بل إن في إظهار القياس والوحدة إظهارا لتكرار يمل النفس اطراده وملازمته للحن والغناء، إلا أن يقع في مواطنه من الموسيقى المحركة كالتي تصاحب الرقص. والفن الحق يتفادى هذا العيب بإخفاء مساند البناء الموسيقي من قياس وغيره، كما يخفي المهندس دعائم البناء الجميل، وبعض نواتئه وزواياه، بحيله الفنية وبالطلاء والزخرفة
وما اكثر الجاهلين من ملحني الأغاني إن اللحن إنشاء صوتي يوجب عليهم المطابقة التامة بين مدلولاته والمدلولات الكلامية. وليس ينفي هذه الحقيقة ائتلاف الحزن الذليل الفائض من الأغاني والحزن الأذل المتدفق من ألحانها: لأنه ائتلاف لم يأت عن دقة في حساسية المؤلف ويقظة في مشاعره وملكاته ولا عن فطنة فنية، بل هو الشاهد باستقرار عادة التذلل والبكاء واستحالتهما شِنشِنةً بالإدمان. يثبت ذلك أن مدلولات لحن الأغنية الحزينة تأتلف مع مدلولات كلامها، لكن كثيرا ما تختلف معها في مصاحبتها لألفاظ العاشق المتضعضع الباكي، بمعان صوتية مرقصة مرة، أو ساخرة ومتغنجة أخرى، أو متميعة؛ ولو كانت نفس الملحن حساسة لما جاءت بأمثال هذا الاختلاف في لحنه. ولو كان مدركاً معنى الإنشاء الصوتي والغناء، لأصلح أخطاء لحنه بالتهذيب بعد تأليفه؛ أو لو كان فنانا حقا لما تعمد مثل هذا السخف لإرضاء أحد
أما المغني، فقد اصبح مثله الأعلى هو التفوق في حكاية الذل والحزن، الحزن والذل وحدهما! كل الحزن والذل! وفي وصف بنات الصدر، حتى تشبع قلبه من الكآبة تشبعاً ينفضها على صوته، شاء أو لم يشأ، وحتى قد يكون جيد الصوت، لكن غناءه على رغم هذه الجودة بكاء حقيقي وعويل، لا صوت مغن. والفرق عظيم بين الحقيقة والفن الذي يمثلها، فإن صار تمثيله حقيقة، فلا يكون فناً
وأكثر المغنين إنما صنعتهم مسخ لألحان مسيخة، مسخ يزيدها بشاعة بعيوب ليست من الفن ولا الغناء في شئ كما يتوهمون. وهؤلاء عيوب غنائهم عديدة وبيان بعضها فيما يلي: