إنك لتمنحنا الجديد وتهبنا الطريف؛ ولكنك تسلبنا القديم وتحرمنا التليد؛ لا بل أنت تسرق منا هياكلنا ونفوسنا، وتخطف ذراتنا وخواطرنا، وأيا كان ما تعوضنا فان تعويضك محدود بالعمر صائر إلى نفاذ، وفقداننا إلى غير رجعة ولا يستعاد من ذا الذي يستطيع أن يقول في لحظة ما: أنا. . . أنا. . . أنا الذي كنت منذ لحظة. . . إن كل شئ قد تغير منذ اللحظة الفائتة، فليس هو من كان هناك. . . إنك في هذه اللحظة الخاطفة نسلت منه خيوطاً، ونسجت فيه خيوطاً!
أين الشموس الغابرة وراء الآباد؟ أين الليالي الساربة في مجاهل الأبد؟ أين النجوم مندمجة من السديم؟ أين مولد الأرض بجانب منابع الزمن؟ أين أول فجر وأين أول حي على هذه الكرة السابحة في الفضاء؟ أين إنسان الغاب في الكهوف والآجام؟ أين الزلازل والأعاصير؟ أين النسائم والنفحات؟ أين الوسوسة والخرير؟ أين الرفرفة والصدحات؟ أين البسمات التي رفت على الشفاه؟ أين العبسات التي غضنت الجباه؟ أين الهواجس والأفكار؟ أين الرغائب والاوطار؟ أين الحب والبغض؟ أين الهيام والسلوان؟؟. . .
أين. . . أين. . .؟ بل أين كلمة (أين) هذه التي لفظتها منذ لحظة؟ بل أين المقطع الأخير من (أين) الأخيرة؟. . .
لقد نسلت خيوطها ونسجت سواها. . . وهأنت ذا دائب على المنسج الأبدي الجبار!
هأنذا أعيد تلاوة هذه السطور التي خطتها يدي؛ ولكنها ليست هي كما خطتها، ولست أنا كما كنت لحظة تسطيرها. . . إنك نسلت ونسجت في خيوط يدي ونفسي، وفي حركاتي وخواطري؛ وفي خيوط الصحيفة التي حوتها، وفي خيوط المداد الذي أثبتها. . . وهأنت ذا لا تزال تنسل وتنسج في هؤلاء جميعا ولن يكون شئ منها كما كان مرة أخرى!