نفسها، فانطلقت تغني وتتبختر في أرض الغرفة كالطاووس الجميل
ولعباً بعد ذلك الورق وتكدست أمامها أكداس القروش! فرمقته بعينيها وسألته وهي سكرى:(هل تعطيني كل هذه النقود حقا؟) فضحك وطمأنها
وظهر عليها التعب وبدأت تتثاءب. ورف لون وجهها من فعل الخمر، وانفرجت شفتاها، واحمرت عيناها، وثقلت أهدابها وتفككت أوصال جسمها. فارتمت على أريكة بالقرب من المائدة وظلت تحادثه من حين إلى حين، وتنظر إليه بعينيها الناعستين، حتى أحست بلين الفراش فنامت. . .
وبقى في مكانه يحتسي الجمر ويدخن، وعيناه سابحتان في قرار الكأس. ثم رفع بصره إليها وهي نائمة حالمة، وقد تهدل شعرها، وتوردت وجناتها، وظهرت على وجهها كله آيات الطفولة البريئة، وانمحت تكاليف العيش ومظاهر الصنعة من جسمها ونفسها. . . فأشرق روحها وبدت على فطرتها. . . وبان لون جسمها في بياض العاج ونعومة الحرير، وكانت إحدى ذراعيها تحت رأسها والأخرى عند خصرها. . . فتحرك الجسم قليلا وارتفعت الذراع حتى جاوزت العنق، وغاصت الأنامل الرقيقة في الخد المورد، وانحسر الثوب عن الساق، وانزاح الشعر عن الجبين، واهتزت الشفتان قليلا، وتحرك الجسم حركة من يود الصحو؛ على أن الأهداب بقيت مطبقة، والأجفان مسبلة، والنفس هادئاً حالما
ونظر إلى هذه الصورة الرائعة وهو سادر ساهم، فنهض عن مقعده ووقف أمام النافذة المغلقة، وفتح مصراعها، ومر هواء الصيف المنعش على وجهه وأشرف على الليل، وأطل على الوادي الصامت. ورأى لأول مرة في حياته محاسن الطبيعة، وبدائع ما أبدع الله وصور، واعتمد بجسمه على النافذة وبصره يخترق حجب الليل ويعبر النيل والجسر وما وراء الجسر، حيث تتجلى الطبيعة في أروع صورها، وسبحت عيناه في الظلام، واستغرق في تأملاته ومرت في ذهنه صور كثيرة واضحة وغامضة. . . الحرب. . . والغارات. . . والريف. . . والقرية. . . وزوجه. . . وأولاده. . . وشعر بطراوة الهواء ولينه وهو يصافح وجهه، وبجسمه يعود إلى حالته الطبيعية، ورأسه يصفو من فعل الخمر، فانثنى من النافذة، وانطلق يتمشى في أرض الغرفة، وعينيه على الفتاة النائمة ووقف أمامها لحظة. . . ثم انحنى عليها، وحملها على ذراعيه كطفل صغير، ومشى بها إلى مضجعه،