تاريخ الصحافة المصرية من بدء عهد الاحتلال هو تاريخ هذه البلاد في ستين سنة. فمن حاول كتابة تاريخ هذه كتب تاريخ تلك في هذه الحقبة الحافلة بالحوادث التي وصلت بنا تطوراتها إلى ما وصلت إليه البلاد من رقي أدبي ومادي، ومن مركز سياسي واجتماعي.
فما من نهضة قومية سياسية إلا وكانت الصحافة قائدها، وما من حركة اجتماعية أو إصلاحية إلا وكانت الصحف رائدها، عليها اعتمد وبها استعان رجال الفكر والعمل: من الشيخ محمد عبده، إلى جمال الدين الأفغاني، إلى قاسم أمين، إلى مصطفى كامل، إلى سعد زغلول، إلى سائر زعماء السياسة والاجتماع. فكانت الصحافة في أيدي هؤلاء القادة - وفي أيدي أنصارهم ودعاتهم - السلاح الماضي للذود عن آرائهم، والبوق النافخ الذي يذيع صيحاتهم في جميع أرجاء البلاد وفيما وراء حدودها.
أي حادث وقع في مصر، وأي إصلاح تم في مصر، ولم يكن الدور الأول فيه لصحف مصر؟ وأي اعتداء وقع على الدستور أو على الحرية ولم تصب شظيته الأولى صحف مصر؟ وإذا عاد كل منا إلى تذكر أول نبضة وطنية نبض بها قلبه، أو أول اختلاجه قومية اختلج بها فؤاده، أو أول ثورة فكرية تأثر بها عقله، وجد أن مصدرها كان مقالاً في صحيفة قرأها أو سمع والده يقرؤها
وهذا الذي نذكره عن مصر يجوز أن نذكره عن كل بلد آخر؛ ولذلك قالوا إن صحافة كل بلاد هي مرآة صادقة لأخلاقها وميولها ومثلها العليا
ومادام هذا مقام الصحافة، فما أكثر الصفات الواجب توافرها في من يتجندون لخدمتها. . . إذا وجبت الأمانة والصدق والإخلاص في كل عمل، فإنها في الصحافة أوجب منها في غيرها؛ لأن ضرر الرجل الذي يخون هذه الواجبات في عمله محصور في نطاق محدود؛ ولكن ضرر الصحفي الذي يخونها يتعدى إلى الألوف، بل عشرات الألوف، بل مئات الألوف الذين يتناولون غذاءهم الأدبي والفكري في كل صباح وكل مساء من الصحيفة التي يقرءون، فيكون لهم فيها الغذاء النافع أو السم الناقع لذلك نرى الصحافة تتدرج وتترقى من الوجهة المادية، فتزاد صفحاتها، وتكثر أبوابها، وتتنوع أنباؤها، ويتفنن في بحوثها ومقالاتها