أنا أرجح أن الأدب الحديث في العراق قد انتفع بثلاثة ينابيع: أولها الأدب الفارسي وثانيها الأدب التركي وثالثها الأدب المصري (مع الاحتفاظ بفضل الأدب العربي القديم)
ولكن كيف وصلت إليه بتلك الينابيع؟
الجواب حاضر، فاتصال العراقيين بالأدب الفارسي معروف، ولا يزال بين أدبائهم رجال يسايرون الآداب الفارسية ويتأثرون ما بها من أخيلة وتعابير، وقد يكون فيهم من ينظم الشعر باللغة الفارسية كما صنع الزهاوي يوم ذهب إلى إيران للاشتراك في إحياء ذكرى الفردوسي، وقد يكون فيهم من يؤلف بالفارسية كما يصنع السيد هبة الدين الشهرستاني
واتصال العراقيين بالأدب التركي لا يحتاج إلى بيان، فقد كان جمهور أدبائهم على صلة وثيقة بالتيارات الأدبية في البلاد التركية، وأكثر رجالهم الكبار تلقوا دروسهم العالية في استامبول
أما اتصال العراقيين بالأدب المصري فهو أقوى من اتصال المصريين بالأدب المصري، وهذا كلام يستغربه من تغيب عنه الموازنة بين القراء في مصر والقراء في العراق، فالقراء في مصر لا يعنون بالصحافة الأدبية كما يعنون بالصحافة السياسية، ومن أجل ذلك تفوتهم أشياء وأشياء من النتاج الأدبي. ولا كذلك القراء في العراق فهم يسايرون الصحافة الأدبية في مصر مسايرة جدية، ويعرفون من أخبار الأدب في مصر أضعاف ما يعرف القراء المصريون
فما السبب؟ أيكون شبان مصر أقل ذكاء من شبان العراق؟
لا، وإنما يرجع السبب إلى قوة الصحافة السياسية في بلادنا وضعف الصحافة السياسية في بلادهم، فشبابنا يجدون من أخبار السياسة ما يلهيهم عن الأدب الصرف ويحولهم إلى جنود سياسيين، وشبان العراق لا يجدون من أخبار السياسة ما يلهيهم عن الأدب الصرف، ولهذا يقبلون على الصحافة الأدبية إقبالاً يستوجب الثناء
ونصل بهذه المحاولة إلى النص على أن أدباء العراق لهذا العهد ينقسمون إلى جيلين مختلفين بعض الاختلاف: الجيل الوثيق الاتصال بالآداب الفارسية والتركية، والجيل الذي يأخذ أكبر مادة لغذائه العقلي والروحي من الآداب العربية المصرية، والتفريق أو التمييز بين آثار هذين الجيلين لا يحوج الباحث إلى عناء