التبعية العقلية والثقافية لأوربا تتطور مع الزمن إلى تبعية سياسية وقومية. والوجهة الثالثة هي إحياء التراث الشرقي مع اقتباس خير ما أنتجه وينتجه التراث الغربي من الناحية العلمية والأدبية؛ وهي في اعتقادي الطريقة الوسط التي تكفل لنا نهضة صحيحة في الحياة العقلية والفكرية
إني أجد في تاريخ الأستاذ الإمام لشيخ محمد عبده ما يؤيد وجهة نظري؛ فهو الإمام الديني العظيم، ومع ذلك قد اقتبس في علمه وتفكيره عن العلوم والفلسفة الأوربية، وطالع الكثير من كتب العلماء والمستشرقين والفلاسفة الأوربيين. وكان يتابع دائماً حركة التقدم العلمي في أوربا ويخالط العلماء الغربيين ويحادثهم ويأخذ عنهم خير ما أنتجوا. ولقد كان لذلك أثر كبير في اتساع مداركه وتفكيره، بل في قدرته على الدفاع عن الإسلام وتخليصه من الشوائب التي علقت به في عصور الركود والجمود، وتفهم المسلمين وغير المسلمين حقائقه السليمة. ولا اعتقد أنه كان يصل إلى هذه المنزلة لو اقتصر في علمه وإدراكه على مدارك التراث الشرقي. ولا اعتقد أن معاصريه من العلماء الذين اقصروا على التراث الشرقي قد وصلوا إلى مثل هذه المنزلة أو خدموا الإسلام مثلما خدمه الأستاذ الإمام
فحينما حمل (هانوتو) حملاته المشهورة على الإسلام لم تجد من يرد هذه الحملات ويفندها تفنيداً علمياً سديداً مثل الأستاذ الإمام الشيخ محمد عبده، وكذلك لا تجدون كتاباً دحض حجيج الطاعنين في الإسلام مثل كتابه (الإسلام والنصرانية مع العلم والمدنية) ومن يطالع هذا الكتاب أو يطالع رده على هانوتو يجد مبلغ ما اقتبسه عن الفلسفة الأوربية والعلم الأوربي والشواهد الأوربية
قد يكون لنبوغ الشيخ محمد عبده دخل فيما بلغه من ألمكانه ألعلميه، ولكن هذا النبوغ ذاته قد وجهه إلى الاقتباس من التراث الأوربي إذ وجده ضرورياً لاكتمال نضجه وثقافته وعلمه وفي الحديث الشريف:(اطلبوا العلم ولو في الصين)
وصفوة القول أن التراث الشرقي يحتوي ولا شك على كنوز من العلم والحكمة والأدب، ولكننا في حاجة أيضاً إلى كنوز التراث الغربي الحديث لكي يتم لنا النضج والكمال في حياتنا العقلية