واقتبسوا أيضاً في عهد الحروب الصليبية العلوم والحضارة الشرقية وحملوها إلى بلادهم وأفادوا منها، وكانت من العوامل الجوهرية في نهضة أوربا
فمن الواجب إذن على الأمم الشرقية إلى جانب إحياء التراث الشرقي القديم أن تقتبس عن الغرب تراثه الجديد، وتأخذ عنه محاسنه ومزاياه. ولو أن حركة التقدم قد تابعت سيرها في الشرق ولم يقفها ذلك التأخر الذي أصابه خلال قرون عديدة لزاد من غير شك تراثه في العلوم والآداب، ولما سبقه الغرب في هذا المضمار. أما وقد بعد عهده بازدهار الحياة العقلية فعليه إذا أراد بعث هذه الحياة أن يقتبس عن الغرب علومه الحديثة. وهذا على وجه التحقيق ما اتجهت إليه حركة النهضة العلمية والعقلية في مصر منذ بداية القرن التاسع عشر، عندما ولى أمرها محمد علي الكبير. فهو إذ أراد أن يبعث الحياة العلمية والعقلية في مصر لم يقتصر على إحياء التراث الشرقي القديم بل نقلها إليها إلى جانب ذلك علوم الغرب وآدابه. وأوفد لذلك البعثات العلمية إلى أوربا فتلقى أعضاؤها العلوم والفنون والآداب في جامعات فرنسا وغيرها وعادوا إلى مصر وقد اكتملت ثقافتهم فنقلوا إلى اللغة العربية كتب الطب والطبيعيات والرياضيات والفنون الحربية والآداب والحقوق والعلوم الاقتصادية والاجتماعية. فهؤلاء العلماء الذين استوفوا قسطهم من التراث الغربي هم الذين على يدهم بعث التراث الشرقي القديم في ثوب قشيب، فعادت إليه الحياة. ولو انهم اقتصروا على هذا التراث وحده لما كان في استطاعتهم بعثه واستظهار مفاخره ومزاياه. فعلى ضوء العلوم الأوربية والثقافة الأوربية قد تكشفت لهم حقائق التراث الشرقي وفهموها حق الفهم، وربطوا بينها وبين عوامل التقدم الحديث بحيث تابعوا هذه العوامل فنهضوا بهذا التراث وجعلوه ملائماً لمقتضيات العصر الحاضر
هناك وجهات نظر ثلاث لا تزال النهضة العلمية والعقلية في الشق مترددة حائرة بينها: إحداها ترمي إلى الاقتصار على التراث الشرقي القديم وإحيائه، وقصر الحياة العقلية على حدوده، ومقتضياته؛ وهذه الوجهة لا تكفي فيما أعتقد لاستكمال أسباب النهضة والحياة في العصر الحديث. والثانية إطراح التراث الشرقي جانباً وقطع صلاتنا بالماضي واقتباس الحضارة الأوربية والعقلية الأوربية كما هي بما لها وما عليها، بمزاياها وعيوبها. وهذه أيضاً وجهة نظر خاطئة تنتهي بنا إلى اقتباس العيوب دون المزايا، وتؤدي إلى نوع من