لولا ظروفه الجسمية الخاصة التي حالت بين عقله الكبير وما أراد. وهو القائل:
ولم أعرض عن اللذات إلا ... لأن خيارها عني خنسته)
ويلوح من خطاب الأديب أن صاحبه ممن يحبون الاستدراك لمحض الاستدراك، وهو طبع في غير قليل من الناس.
فنحن نقول إن أسباب طلب السلطة هي فطرة الرياسة، أو حب الامتياز، أو اتقاء شرور المسيطرين، أو الرغبة في تسخير الأداء الحكومية للإصلاح، فيأتي صاحب الخطاب بسبب خامس هو ميراث السلطة عن الآباء والحرص على بقائها في الأسرة! كأنما هذا السبب لا ينتهي إلى واحد من الأسباب الأربعة التي قدمناها! أو كأننا حين نقول إن الناس يرثون البيوت ننفي أن البيوت تبنى للسكنى، أو كأننا حين نعلم أن الناس يصنعون الطعام ليبيعوه ننفي أن نهاية الطعام هي الغذاء سواء صنع في الأسواق أو صنع في الدور.
فالناس لا يحبون أن يرثوا السلطة إلا لأنها تكفل لهم غرضاً من الأغراض التي قدمناها. وإلا فما بالهم لا يحرصون على وراثة المسكنة من آبائهم المساكين؟ وما بالهم لا يحتفظون في الأسرة بالديون والمغارم والوصمات؟
إنما يحرصون على بقاء السلطة في ميراثهم لأنها مطلب محبوب، وإنما هي مطلب محبوب للأسباب التي قدمناها لا لأنها تركة موروثة عن الآباء.
أما أن المفكر النابغ مفروض عليه طلب السلطان، فهذا خلاف للواقع، وخلاف للقياس المطرد في (تطور) الملكات.
ففي الواقع لم يوجد قط مفكر موهوب وعبقري مثمر في عالم الفنون تخلى عن الفكر والفن ليطمح إلى الحكم وإدارة الدواوين.
وقبل أن يوجه إلينا الأديب خطابه الأول كنا نكتب (هتلر في الميزان) فقلنا من فصل عن كفاءته الذهنية: (إن الحقيقة الراسخة من وراء كل جدل وكل مراء هي أن الفنان الموهوب لن يترك فنه ليعقد مصيره بالسياسة وغيرها من المطالب كائناً ما كان نصيبه منها، لأن الهبة الفنية كالوظيفة العضوية التي لا تقبل الإهمال، ولا تزال في إلحاحها على صاحبها كالهيام القلبي في إلحاحه على العاشق الممتلئ بالحياة، فلا هو يغفل عنها ولا هي تمهله إلى زمن طويل.