رأيت المحاضر لأول مرة في باريس منذ عشر سنوات، ولم تكن قد صقلته الأيام بعد، أو غيرت فيه ما تلقنه من المجتمع أو المنزل أو المدرسة. دخل (السوربون) يتخبط كغيره ليعلم ما لا يعلم، ويهضم ما يتعلم، ويوازن بين ما كان يعلم وما يجب أن يعلم؛ ولم يكن لجلال معين يكفيه مئونة العيش، فكافح للأمرين: كافح للكسب أولاً وللتعليم ثانياً. وظننت في وقت أنه سيخر صريع هذا الكفاح العنيف، ولكنه كسب عيشه في باريس شريفاً، وصرف ذلك من أجل ما هو أشرف: في الدرس والتحصيل. وعلمته الأيام يتكون، وكيف يكون رجلاً.
جمعتنا مصر بعد فرقة، وسعى إلى يحدثني عما فعل، وأي شرف ناله من هذا السعي، وأي غبطة شعرت بها عندما تتبعت الفروع التي نجح فيها، وأي فرح غمرني عندما علمت أنه أصبح مبعوثاً لمعهد الأجناس الفرنسي لدراسة المناطق الإفريقية التي لا يقبل الكثير منا على ارتيادها، ثم مبعوثاً لجامعة فؤاد الأول. عندئذ علمت أن الرجل قد تكون، وأنه نال تقدير العلماء. بعد ذلك رحل وحيداً إلى قبائل (المابان) وغيرها، وعاد بعد غيبة طويلة، ثم عرج إلى مناطق الحدود المصرية السودانية على ساحل البحر الأحمر. وها نحن أولاء نسترق من الصديق العالم ساعة قبيل رحلته التي سيقوم بها بعد يومين إلى بلاد النوبة.
محمد محمود غالي
تعقيب على مقال
في المقال الذي نشره الدكتور زكي مبارك في العدد ٤٠٢ من الرسالة، رداً على، مسألتان جديرتان بالتعقيب، وهما:
١ - أن الدكتور قال: إنه قد عدى (حرم) بالحرف (أي من) في بعض قصائده، وهو يتعدى بنفسه، فاعترض عليه بعض أدباء الشرق، فدافع عن هذه التعدية بأنه قد يرى المعنى في بعض الأحايين لا يؤدي تأدية صحيحة إلا إذا عبر عنه بتلك الصورة - وهو نفس الدفاع الذي اعتضد به الدكتور في تعدية (أمكن) باللام.
وأقول لحضرة الدكتور أن الفعل (حرم) يتعدى بمن أيضاً. وعندي شاهد لذلك عثرت عليه في بعض مطالعاتي للأغاني.