موضوعها (هل يزدهر الفكر في عهد الفوضى أم في عهد الأمان) كما يتضح في المناظرة التي كان موضوعها (هل يكفي التراث الشرقي - أو العربي - لتمام نضوج الذهن). ففي المحاضرة الأولى لم يتضح من الجملة نوع الفوضى ونوع الأمان كما لم يتضح من الجملة الثانية معنى التراث ومعنى تمام النضوج فإن من الفوضى فوضى قد تكون ناشئة من التقاء الثقافات واجتماع الحضارات، وفوضى قد تكون ناشئة عن المحركات النفسية التي تبعث إلى التفكير، وكلاهما قد تكون فوضى نسبية تساعد على التفكير وازدهار الثقافة. كما أن من الفوضى فوضى ناشئة عن اختلال النظام واضطراب الدولة، والفتن والحرب التي تعم وتجعل الحياة غير موثوق من بقائها وتعطل الأرزاق وتشغل المفكر عن الفكر بالتماس طرق تأمين الحياة وطلب الرزق أولاً حتى يستطيع أن يفكر بعد أن يتهيأ له ما أراد، ومثل هذه الفوضى تعطل أمور التفكير وتمنع من ازدهاره. ومن الفوضى فوضى قد تكون بسبب شدة العصبية للرأي؛ فكل طائفة تريد أن تغلب رأيها، فإذا تعدت العصبية للرأي وسيلة الإقناع إلى وسائل القهر والإلزام، وصار النصر في تلك الوسائل سجالاً ومداولة وتبع هذه المداولة الفتك والقتل والنهب. منعت كل هذه الأمور من ازدهار الفكر إلى أن تستقر الأمور. ومن الفوضى فوضى نسبية هي أيضاً نتيجة شدة العصبية للرأي، ولكنها لا تلجأ إلى وسائل الفتك أو لا تدوم على تلك الحال أو لا يكون الفتك سجالا إلى أمد طويل. وهذه قد يزدهر معها الفكر ومن الفوضى فوضى تتخللها مواطن الأمان، أو كما يقولون جزائر الأمان ولا يراد بمعنى جزائر الجغرافي وإنما المراد مواطن أمان يطمئن فيها ويستقر إليها المفكرون إذ لا أمان في بقاع أخرى في الوقت نفسه فيكون ازدهار الفكر في مواطن الأمان لا في أماكن الفوضى ومن الفوضى فوضى لا توجد فيها جزائر الأمان فلا تساعد ازدهار الفكر والأولى مثل دويلات العهد الأخير من الدول العباسية ودويلات مدن الإغريق ودول ملوك الطوائف في الأندلس وغيرها، ومن الفوضى فوضى ناشئة عن عبث النفوس وقلة اكتراثها للجد والحق وهذه لا تعين على التفكير. ومن الفوضى فوضى يعقبها تعمير، وفوضى لا يعقبها إلا الخراب والاضمحلال، وفوضى تكون في أول نشأة الأمم والحضارات، وفوضى في أواخر عهدها. والأمان أيضاً أنواع، فمنه أمان يكون في عهد مجد الدولة وبأسها، واستقرار أمورها، واتساع نطاق تجارتها ونمو ثروتها، وهو أمان