مضى ذلك العهد، وقد اتسعت بفضل القرآن وتأثيره في النفوس رقعة الإسلام، وامتد سلطانه، ودخلته حضارات وثقافات وعناصر مختلفة وأمم متباينة، فبدأت عوامل التفكك تتسرب إلى الوحدة الإسلامية
حدثت بدعة الفِرق، والتطاحن المذهبي، والتشاحن الطائفي، وأخذ أرباب المذاهب وحاملو رايات الفرق المختلفة يتنافسون في العصبيات المذهبية والسياسية، وامتدت أيديهم إلى القرآن، فأخذوا يوجهون العقول في فهمه إلى وجهات تتفق وما يريدون وبذلك تعددت وجهات النظر في القرآن، واختلفت مسالك الناس في فهمه وتفسيره، وظهرت في أثناء ذلك ظاهرة خطيرة هي تفسير القرآن بالروايات الغريبة والإسرائيليات الموضوعة التي تلقفها الرواة من أهل الكتاب وجعلوها بياناً لمجمل القرآن وتفصيلاً لآياته، ولم يروا بأساً من أن يضيفوا إليه خصائص موهومة في شفاء الأمراض وقضاء الحاجات وتفريج الكربات
ومنهم من عني بتنزيل القرآن على مذهبه أو عقيدته الخاصة، وبذلك وجدت تحكمات الفقهاء والمتكلمين وغلاة المتصوفة وغيرهم ممن يروجون لمذاهبهم ويستبيحون في سبيل تأييدها والدعاية لها أن يقتحموا حمى القرآن، فأصبحنا نرى من يؤول الآيات لتوافق مذهب فلان، ومن يخرجها عن بيانها الواضح وغرضها المسوقة له لكي لا تصلح دليلاً لمذهب فلان، وبهذا اصبح القرآن تابعاً بعد أن كان متبوعاً، ومحكوماً عليه بعد أن كان حاكما
كانت هذه ثورة، وثورة غير منظمة، عقدت حول القرآن غباراً كثيفاً حجب عن العقول ما فيه من نور الإرشاد والهداية. وكان من سوء الحظ أن صادفت هذه الثورة عهد التدوين، فحفظت ودونت كثير من الآراء الباطلة في بطون الكتب، وأخذت بحكم الأقدمية ومرور الزمن نوعاً من القداسة التي يخضع لها الناس، فتلقاها المسلمون في عصور الضعف الفكري والانحلال السياسي كقضايا مسلمة وعقائد موروثة لا يسوغ لهم التحلل منها ولا الاعتداء عليها ولا التشكيك فيها
قيد هذا التراث العقول والأفكار بقيود جنت على الفكر الإسلامي فيما يختص بفهم القرآن، والانتفاع بهداية القرآن، فجمد الناس على تقليد هذه الكتب، واتخذوها حكما بينهم، واعتقدوا كل ما فيها من غير تمييز بين حق وباطل ونافع وضار، واعتقدوا أنه لا يصح لمؤمن أن