هل تعرف، أيها السيد، كيف حرم أبناء الريف نعمة الشاعرية؟
ولكن ما هذه الشاعرية؟
إليك أسوق الجواب:
كان جميع أبناء الريف يتعلقون بمزارعهم إلى حد الفتون، فكان الرجل منهم يراعي مزروعاته بشغف وشوق، ويكاد يعرف كيف تطول الورقة الخضراء من ساعة إلى ساعة، بل من دقيقة إلى دقيقة، بل من لمحة إلى لمحة؛ وكان الرجل منهم يعطف على مواشيه كما يعطف على أبنائه الأعزاء؛ وكان الفلاح يعرف ملامح كل شجرة، ويأنس بكل نبتة، ويكاد ينظم قصيدة رثاء حين يرى سنبلة قصمتها الرياح
فأين أهلونا في الريف من هذه المعاني بعد أن سمعوا بقصة التمدن الحديث؟
أين أهل الريف من هذه المعاني، وما نشأ منهم ناشئ إلا وهو يرجو الرحيل إلى القاهرة، ليجد وظيفة تغنيه عن الأنس بمزارع القطن والقمح والفول؟
إن أسلافنا القدماء عبدوا مصادر الخيرات في بلادهم إلى الحد الذي سمح بأن يروا معنى الألوهية في البقرة الحلوب، والى الحد الذي سمح بأن يعتقدوا أن النيل اله معبود
فأين نحن من أولئك الأسلاف؟ وأين فينا من يتشرف بأنه فلاح وابن فلاح؟
لقد توهم الأستاذ فكري أباظة أنني من (سادة الصالونات الأرستقراطية التي تعيش في دنيا الجاتو والجيلاتين والجامبون والمارون جلاسيه). فليعرف أن هذه الألفاظ تحتاج إلى شرح يقربها إلى ذهني بعض التقريب، لأن بيتي لا يعرف هذه الأصناف، ولان من يتفضلون بدعوتي إلى بعض الولائم يطوونها عني، ولأني نسيتها نسياناً تاماً بعد فراق باريس، أن كنت ذقت في باريس غير أقذاء العينين تحت ضوء السراج
ماذا أريد أن أقول؟
أنا أريد القول بأن دنيا الناس في مصر قد أصيبت بالانحراف وإلا فكيف جاز أن تكون دعوتي إلى إصلاح أخلاق الفقراء كارثة لا تقع إلا فوق رأسي؟!
وكيف يجوز أن يكون الأستاذ فكري أباظة من خصومي، وقد اكتوت يداه بالانحراف الاجتماعي كما اكتوت يداي؟
بلادنا مهددة بالشقاء، بسبب سوء الفهم لعناصر النظام الاجتماعي، فما الذي يمنع من أن